بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى جعل هذه الحياة الدنيا دار عمل ولا جزاء، وجعل بعدها الآخرة دار جزاءٍ ولا عمل، وامتحننا بالموت والحياة؛ ليبلونا أينا أحسن عملاً، وأقام علينا الحجة البالغة لله جل جلاله، وجعلنا تحت خمس رقابات:
الرقابة الأولى: رقابة الملك الديان جل جلاله، فهو الشاهد الذي لا يغيب ولا تخفى عليه خافية، يعلم السر وأخفى، وهو أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد.
والرقابة الثانية: رقابة الملائكة الكرام الكاتبين، فإنهم يعلمون ما يعمله الإنسان، كما قال الله تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ[الانفطار:10-12].
والرقابة الثالثة: رقابة الرسول الشهيد، فإنه يشهد علينا بأعمالنا التي تعرض عليه في قبره، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن صلاتنا معروضة عليه، وورد عنه: أن الأعمال كلها تعرض عليه في قبره؛ لأن الله حكم بشهادته علينا، وقال في ذلك: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا[البقرة:143]، ومن المعلوم في الشرع أن من لم يعلم شيئاً لا يحل له أن يشهد به؛ لأن الله تعالى يقول: وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ[يوسف:81]، ويقول تعالى: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ[الزخرف:86].
والرقابة الرابعة: رقابة المؤمنين، فهم شهداء الله في أرضه، كما قال الله تعالى: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُؤْمِنُونَ[التوبة:105]، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنتم شهداء الله في أرضه، فمن أثنيتم عليه بخير وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه بشر وجبت له النار).
والرقابة الخامسة: رقابة الإنسان على نفسه، بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ[القيامة:14] وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ[القيامة:15]، فستشهد عليه جوارحه وملابسه وأطرافه يوم القيامة، كما قال الله تعالى: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ[يس:65], وقال تعالى: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ المُبِينُ[النور:24-25]، وقال تعالى: وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ[فصلت:21-22].
فإذا تذكر الإنسان ذلك تذكر أن له خمسة أعمار:
عمره الأول: كان في عالم الذر، عندما مسح الله ظهر آدم فأخرج منه ذريته، فقال آدم: ( أي رب من هؤلاء؟ قال: خلق من ذريتك، خلقتهم للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم أخرج منه ذرية أخرى، فقال آدم: أي رب من هؤلاء؟ قال: خلق من ذريتك، خلقتهم للنار وبعمل أهل النار يعملون، ثم خلقهم حتى ما يتميزون فناداهم وقال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا ).
والعمر الثاني: هو عمر الإنسان فوق الأرض، ويبدأ من نفخ الروح فيه وهو جنين في بطن أمه، وينتهي بانتزاع الروح منه عند الموت.
والعمر الثالث: هو عمره تحت الأرض في البرزخ بعد الدفن.
والعمر الرابع: هو عمره فوق الساهرة في المحشر في يوم القيامة، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ[المطففين:6].
والعمر الخامس: هو عمره الأبدي السرمدي في جنة أو في نار، وهذا العمر هو أطول الأعمار؛ لأنه لا نهاية له، فبعد أن يدخل الإنسان الجنة لا يخرج منها، وكذلك بعد أن يدخل أهل النار النار يمكثون فيها آماداً غير متناهية، ولذلك يقول لهم مالك خازن النار بعد أن يلتمسوا منه الإخراج أربعين سنة، وهم يقولون: يا مالك نضجت منا الجلود، يا مالك أخرجنا منها فإنا لا نعود، فيقول: إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ[الزخرف:77]، فهم لابثون فيها أحقاباً، أي: أزمنة طويلة، وسنوات مديدة عديدة، مستمرون على ذلك العذاب الشديد.
فإذا أدرك الإنسان ذلك حرص على ما ينجيه؛ لأن العاقل إذا كان يعلم أن مستقره إنما هو في منزله، وأن مدة بقائه في مكتبه أو في سوقه مدة محصورة، فإنه يجعل وسائل راحته ونومه وهدوئه في بيته الذي يستقر فيه، ولا يمكن أن يجعل ذلك في المكان الذي يمكث فيه ساعة قليلة، ومدة بقائنا في هذه الحياة الدنيا ساعة قليلة؛ لأننا بعد الموت نسأل فيقول الله تعالى: كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللهُ المَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ[المؤمنون:112-116]، فلا بد من الاستعداد للرحيل من هذه الحياة الدنيا، وقد قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مالي وما للدنيا، إنما أنا كراكب استظل تحت شجرة)، والراكب إذا استظل بالشجرة فإنها لا يريد البقاء الأبدي السرمدي تحتها، وإنما يريد أن يجعلها متاعاً لمدة محددة، ثم بعد ذلك ينطلق في سفرته، ولا يمكن أن يتخذ هذا دار قرار، فالعاقل ينظر إلى هذه الدنيا بهذه النظرة، فقد قامت عليه الشواهد بذلك، فأين آباؤنا وأمهاتنا إلى آدم عليه السلام، ألم يسبقونا إلى الدار الآخرة؟ وكل يوم نرى بعثاً ينطلق إلى الدار الآخرة، ممن هو أسن منا, وممن هو أكبر, وممن هو أصغر, وممن هو معاصر من أولادنا وإخواننا وأخواتنا، ينطلقون إلى الدار الآخرة يُحملون على الرقاب، لا يصحبهم إلا عملهم، وتنقطع أخبارهم بعد ذلك.
ونحن نعلم أن القبر هو أول منازل الآخرة، وأنه أعظم من كل ما قبله، وأعظم منه كل ما بعده، فإنه ينسي الإنسان كل ما سبق عليه من النعيم والراحة وكل ما سبق عليه من الأذى والإهانة والمرض وغير ذلك؛ لأنه أعظم من كل ذلك كله، وبعد ذلك يأتي ما فيه من المشاهد من ذلك العمر، كسؤال الملكين منكر ونكير، وكعرض العمل على الإنسان، وكعرض مقعده من الجنة والنار، وهكذا حتى يخرج منه الإنسان إلى البعث، فنحتاج إلى الاستعداد لهذا الامتحان الحتمي الذي لابد منه، وقد قامت الشواهد علينا به، ولا أحد منا ينكر أنه سائر إلى ذلك الطريق.
فإننا مررنا في خلقتنا بتسع مراحل قد مضى منها سبع وبقي اثنتان، فقد قال الله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ[المؤمنون:12-16]، والإنسان إذا أدرك أن الموت ليس مجرد بلاءٍ، بل هو انتقال من دار إلى دار, وتحول من حال إلى حال، وأهله الذين شاهدوه قد بدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون، وقدموا إلى ما قدَّموا، وانتقلوا إلى دار لا عمل فيها إلا من قبل العمل أو تجاوز الله سبحانه وتعالى وتغمده برحمته، فإنه لابد أن يتزودوا لهذا السفر الطويل.
وإذا أدرك الإنسان أنه قريب ويأتي بغتةً، فكم من إنسان نام وهو صحيح الجسم لا يشكو مرضاً أياً كان، ومات في نومته، وكم من إنسان خرج إلى بيته دون أن يقوض أغراضه فمات بحادث سير، وكم من إنسان فوجئ فجأةً بألم عارض فكان سبب موته، وكم من إنسان فحص كل الفحوص ولم يجد فيه مرضاً ثم بعد ذلك مات بغير سبب.
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد
فإذا كنا موقنين بأنه آتٍ لا محالة، وأدركنا أنه مجرد مرحلةٍ نمر بها ونعبر منها إلى معبر آخر أكبر منها، فلا بد من الاستعداد لذلك، والاستعداد لا يكون إلا اليوم ما دمنا في هذه الحياة وحال التصرف والاستغناء، فإن الإنسان إذا مات ورأى الأموات في قبورهم وبات بينهم ليلته الأولى التي هي إحدى الليلتين العظيمتين، فهي ليلتان لم تسمع الخلائق بمثلمها: ليلة يبيت مع الموتى ولم يبت معهم قبلها، وليلة صبيحتها يوم القيامة، إذا أدرك ذلك لابد أن يتزود، فقد حدد من شهد خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال:
أجدك لم تسمع وصاة محمد رسول الإله حين أوصى وأشهدا
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثله فترصد للموت الذي كان أرصدا
فمن لم يرصد للموت رصداً ولم يتهيأ لها فإنه مغبون لا محالة، وقد صح في صحيح البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة, والفراغ)، وقد
أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى المبادرة قبل الموت فقال: (بادروا بالأعمال ستاً: فهل تنتظرون إلا غنىً مطغياً، أو فقراً منسياً، أو هرماً مفنداً، أو موتاً مجهزاً، أو الدجال فالدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر)،
والاستعداد للموت والانتقال إلى الدار الآخرة إنما يكون أولاً: بالتوبة إلى الله، فهي أول مقامات اليقين، وأول ما نقدم به على الله، وقد سمعتم قول ربكم وهو يناديكم نداءً كريماً وهو غني عنكم: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ[الزمر:53-54]، ومعنى (أنيبوا إلى ربكم): توبوا إليه، وقد أمركم بذلك في عدد كثير من الآيات، فقد قال تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[النور:31]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا[التحريم:8]، فأول ما يقدم به الإنسان مما ينجيه هو التوبة إلى الله، فنحن قد فرطنا في جنب الله, ومضت علينا السنوات والشهور والأيام ونحن غافلون عن المصير إليه, والوقوف بين يديه.. غافلون عن تكاليفه.. غافلون عن إحسانه إلينا ونعمته التي لا نحصيها، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا[إبراهيم:34]، وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللهِ[النحل:53].
واللؤم مع الله جل جلاله هو شر لهم، فالإنسان اللئيم هو الذي يحسن إليه غيره فيقابل إحسانه بالإساء، ونحن قد أحسن الله إلينا فجعلنا من خير أمة أخرجت للناس، وهدانا إلى الإسلام، وأرسل إلينا أفضل الرسل, وأنزل علينا أفضل الكتب، وشرع لنا خير شرائع الدين، وأنعم علينا بالصحة والعافية، وفضلنا على كثير ممن خلق تفضيلاً، فاللؤم مع الله أن لا نقابل هذه النعمة بشكرها والاعتراف بها, وبالتوبة إليه جل جلاله من تفريطنا في ذلك.
ثم بعد هذه التوبة لابد أن يحرص الإنسان على أن يكون من أهل الاستقامة، فإن الإنسان قد يتردد على لسانه الاستغفار، وقد يتوب في هذه اللحظة من موعظة عارضة أو أمرٍ ما، ثم يعود إلى ذنبه الذي كان منه وقد ندم عليه، وحينئذٍ يكون من المتذبذبين الذين لا يثبتون، ويخشى عليهم سوء الخاتمة عند الممات، فالذي يحرص على حسن الخاتمة لابد أن يحرص على الاستقامة على الطريق بعد أن رآه؛ لأن الله تعهد بصرف الذين لا يرتضي لهم الموت على الشهادة، ولا يرتضي لهم حسن الخاتمة، فقال تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا[الأعراف:146]، وقال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ المُبِينُ[الحج:11].
ثم بعد الاستقامة على الطريق لابد أن يعلم الإنسان أنه مطالب بالعلم وبالعمل، فيخصص جزءًا من وقته للعلم بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم لتعلمه، ثم بعد ذلك يخصص جزءاً للعمل به وتنزيله، ثم بعد ذلك يخصص جزءًا من وقته للدعوة إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما تلقاه عنه وعمل به في خاصة نفسه، وبعد ذلك يصبر على الطريق، فإنه مفتون عليه, كما قال الله تعالى: الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ[العنكبوت:1-3].
وإذا أدرك الإنسان أنه مشارك في الارتحال لا ينجيه منه التخلف، ولا يستطيع التخلف عنه، وليس له أعذار، هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ * وَلا يُؤْذَنُ لَهمْ فَيَعْتَذِرُونَ[المرسلات:35-36]، فإنه لابد أن يستعد للارتحال إذا كان عاقلاً وإلا عرف النتيجة من البداية، وهي أنه سيكون في أسفل سافلين, وفي الأرذلين المغضوبين عند الله جل جلاله، فالعاقل لا يرضى بذلك، بل لابد أن يحرص على النجاة من عذاب الله, والنجاة من الخزي يوم القيامة، فإنه الخزي الذي لا يمكن أن يتنجى منه الإنسان ولا أن يتطهر منه أبداً، فخزي يوم القيامة هو العار والشنار الذي لا يمكن أن يتخلص منه صاحبه، أما خزي الدنيا فقد تعقبه التوبة, وقد يصلح الإنسان حاله، وقد يتغير إلى صلاح، لكن خزي الآخرة ليس بعده فلاح أبداً، فلذلك لابد أن يحرص الإنسان على عدم الخزي بين يدي الله جل جلاله وهو يعلم أنه موقوف عليه.
ومما يعين الإنسان على ذلك أن يتذكر مسيرته ورحلته، فنحن في رحلة شاقة، بدأت من تكليفنا في هذه الدار ومرت بكثير من الخطوات والفتن التي تُعرض عليها القلوب كأعواد الحصير عوداً عوداً، فكل يوم يُفتن أناس فلا يثبتون ويكونون خاسرين خائبين، وكل يوم يوفق آخرون ويثبتون، كما قال الله تعالى: يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ[إبراهيم:27]، فمن هداه الله فبفضله, ومن أضله فبعدله: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ[الأنبياء:23].
فإذا كان الإنسان يريد الثبات على طريق الحق، فلابد وأن يعرف الطريق الذي أمامه ويتعرف على نكباته وعراقيله وعقباته؛ لئلا يأتيها على بغتة وغفلة فيسقط مع المتساقطين, وتزل قدم بعد ثبوتها.
وأول ذلك: لابد وأن نعرف أن هذا الإيمان الذي عندنا -وهو شرفنا- إنما هو نور من عند الله سبحانه وتعالى وهبة من عنده ومزية وفضل، فليس ناشئاً عن قناعة ولا عن ميراث، كما قال الله تعالى: وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا[الشورى:52]، ولابد أن يدرك الإنسان أنه أحب ما لديه وأشرفه وأفضله, فإذا بقي له إيمانه لم يضره ما سواه، وإذا فقد إيمانه لم ينفعه ما سواه، فلابد أن يحرص على إيمانه غاية الحرص؛ لأنه أبلغ ما اقتنى, وأفضل ما ملك، ثم بعد ذلك يتذكر أنه في هذه الحياة مرتحل للتكاليف، فإذا ضيعها كان كالبهائم أو كان شراً منها، كما قال الله تعالى: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا[الفرقان:44]، وقال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهمْ[محمد:12].
فلا بد إذاً أن يحرص الإنسان على إيمانه، وبعد ذلك يحرص على زيادته وارتفاع درجته، فأهل الإيمان متفاوتون فيه تفاوتاً كثيراً، هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ[آل عمران:163]، وكما قال تعالى: وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا[الإسراء:21]، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم مراتب أهل الإيمان فيه, وقال: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقا)، وهذا يدل على تفاوت عظيم بين أهل الإيمان في إيمانهم وفي مستوياتهم، ولابد أن يحرص الإنسان كل يومٍ تطلع فيه الشمس على زيادة إيمانه حتى يكون يومه خيراً من أمسه، وحتى يكون غده خيراً من يومه، وحتى تكون خطاه إلى الله سبحانه وتعالى ثابتة على هذا الصراط المستقيم، فإن ذلك منجاة له على الصراط الأخروي الذي هو مدحضة مزلة، أرق من الشعر, وأحد من السيف، وعليه كلاليب كشوك السعدان، يسقط من كلوب واحد في النار سبعون ألفاً، يتفاوت الناس عليه بحسب أعمالهم، فمنهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح المرسلة، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل والإبل، ومنهم من يمر كالرجل يشتد عدواً، ومنهم من يزحف على مقعدته، فناجٍ مسلَّم, ومخدوش مرسل, ومكردس على وجهه في نار جهنم.
بدية هذا الطريق الذي نحن عليه هو الميلاد، فمن ولد مات لا محالة، ثم بعد ذلك التكليف وهو مرحلة جديدة، ثم بعد ذلك ما يزيد الإنسان من عمله، سواءً كان في كفة الحسنات أو في كفة السيئات، فالميزان معد له, وصاحب اليمين يكتب الحسنات, وصاحب الشمال يكتب السيئات، والميزان يرجح بقدر الذر، كما الله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه[الزلزلة:7-8]، والنتيجة تُعلن عند ذلك الوزن كما قال الله تعالى: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ[الأعراف:8]، وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ[المؤمنون:103-105]، فلذلك لابد أن يدرك الإنسان أن كل عمل يقدمه اليوم إنما هو في كفة الحسنات أو في كفة السيئات، فليحرص على الاستزادة من الحسنات وعلى تكفير ما مضى من السيئات، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك: (أتبع السيئة الحسنة تمحها, وخالق الناس بخلقٍ حسن).
ثم بعد ذلك يدرك الإنسان أنه ينتظره كثير من أقدار الله المخفية عنه, فقبل الأجل الأعراض, هذا عرض أي: مرض أو حادث من الحوادث، إما أن يصيبه وإما أن يتعداه، وهذه الأعراض هي أشواك الطريق
ثم بعد ذلك يأتي العالم الأخير، وهو اليوم الذي يقطع الأمل, ويخرب على الإنسان ما كان فيه من مشاريعه كلها، ويقطع آماله في ما كان فيه، وهذا الموت يقطع على الإنسان تفكيره، ويقطع عليه عمله، وهو ضيف نازل به لا محالة، ولا يزال كل يومٍ يسمع: مات فلان.. ماتت فلانة.. مات فلان اليوم في المستشفى.. ماتت فلانة في المستشفى.. مات فلان بحادث سير.. ماتت فلانة على فراشها من غير مرض.. إلى أن يكون هو الذي يُنعى.
تنفك تسمع ما حييت بهالكٍ حتى تكونه والمرء قد يرجو الحياة مؤملاً والموت دونه
فيأتي الموت فيقطع عليه طريقه ومشاويره, وما كان يكتمه من الأمور, وما لديه من المكايد والحيل، لا يمكن أن يدفع في ذلك، فلا يدفع الموت بأي شيء من ذلك، ومن جاء أجله لا ينفعه ما كان عليه من العقل أو المكانة أو التدبير:
ما للطبيب يموت بالداء الذي قد كان يشفي مثله في ما مضى
إن الطبيب بطبه ودوائه لا يستطيع علاج جرح قد قضى
وإذا المنية أنشبت أظفارها ألفيت كل تميمة لا تنفعُ
فإذا جاء الموت فلابد أن يدرك الإنسان أنه مفتون عنده قبل أن تُقبض روحه من بدنه، فيُعرض عليه حسن الخاتمة أو سوء الخاتمة، ويأتيه الفتان، فيقول: مت على دين اليهودية.. مت على دين النصرانية.. مت على دين المجوسية، وفي ذلك الوقت يثبت الله أهل الإيمان: يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ[إبراهيم:27].
ثم عندما تُقبض روحه فإن ملك الموت هو الذي يقبضها ويجلس عند رأسه، فإن كانت نفسه طيبةً ناداه، فقال: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي[الفجر:27-30]، فتتهوع إليه الروح من البدن كما تتهوع القطرة من فيِّ السقاء، فلا تكون في كفه طرفة عين حتى يسلمها إلى ملائكة قد دنته مد البصر, كأن وجوههم الشموس، فيجعلونها في كفن من أكفان الجنة، ويجعلون عليها من طيب الجنة، ويرتفون بها إلى السماء فيستأذنون, فيقال: مرحباً بالنفس الطيبة، فتفتح لها أبواب السماء حتى تخر ساجدة تحت العرش، فيقال: ارجعي للسؤال.
وإن كنت نفسه خبيثة جلس ملك الموت عند رأسه فناداه، فقال: يا أيتها النفس الخبيثة! اخرجي إلى سخط من الله وعقوبة، فتتفرق النفس في البدن، فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، بتقطع وعنةٍ وتعب، ولا تكون في كفه طرفة عين حتى يسلمها إلى أولئك الملائكة الذين قد جلسوا مد البصر وهم: بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ * وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ[الأنعام:93-94]، يضعونها في سفط من أسفاط النار، ويجعلون عليها من قطران النار، ويرتفعون بها إلى السماء فيستأذنون فيقال: لا مرحباً بالنفس الخبيثة، ارجعي من حيث جئتِ، فترجع خائبةً خاسرة: لا تُفَتَّحُ لَهمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُجْرِمِينَ * لَهمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ[الأعراف:40-41].
ثم بعد ذلك إذا وُضع الميت في قبره، فإن ضجعته الأولى ضجعة عظيمة، يرى فيها ما كان مخفياً عنه, ويبدو له من الله ما لم يكن يحتسب، فنحن الآن نرى ظاهراً من الحياة الدنيا، نرى شقوصاً وإقبالاً وإدباراً، نرى زخارف يتفاوت الناس فيها، ونرى أوساخاً وأقذاراً في هذه الحياة الدنيا، يمر بها وقت من الأوقات تزهو للناس، ثم تعود أوساخاً ترمى في القمامة، لكن عندما يضطجع الإنسان في قبره في الضجعة الأولى، فإنه تبدو له الأشياء على الحقائق، كما قال الله تعالى: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ[ق:19-22]، يُكشف عنه الغطاء الذي كان يستر عنه الحقائق من أوهام هذه الحياة الدنيا، فيرى الأشياء عين اليقين، ويرى الأمور على حقيقتها.
ثم بعد ذلك تأتي ضمة القبر التي تختلف من الأضلاع وتزول منها الحبائل، وهي تهيئة لسؤال الملكين، والناس لا يبصرونها؛ فهم يبعدون التراب على الميت في قبره، ويتركونه أسير ذنبه, وحيداً في غربته ووحشته، وفي ذلك الظلام الدامس, وفي مراتع الدود دون اللحود، وهو محبوس لا ينتظر إلا فرجه بعمله، وهم أسارى ذنوب لا ينفكون, وأهل قربٍ لا يتزاورون، وهذه الضمة ضمة عظيمة تختلف منها الأضلاع, وتزول منها الحبائل، والحبائل ما زاد عن قدر الظهر من الخاصرتين.
ثم بعد ذلك يأتي الملكان: منكر ونكير في صورة مفظعة, أصواتهما كالرعد القاصف، ونظرهما كالبرق الخاطف، يُجلسانه إلى ركبتيه فيقولان: ما ربك؟ وما دينك؟ وما كنت تقول في هذا الرجل؟ بلغةٍ يفهمها ويستوعبها ويسمعها تماماً، فأما المؤمن فيقول: ربي الله, وديني الإسلام, والرجل المبعوث فينا محمد صلى الله عليه وسلم، هو محمد هو محمد هو محمد ثلاثاً، جاءنا بالبينات والهدى فآمنا واتبعنا، فيقولان له: صدقت وبررت قد علمنا إن كنت لموقناً، ويملآن عليه قبره خضراً ونوراً, ويقولان له: نم نومة عروس.
وأما المنافق أو المرتاب فيقول: هاهٍ هاه, لا أدري كنت سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فيقولان له: لا دريت ولا تليت، فيضربانه بمطارق بين ثوبيه أو بمرزبة معهما لو اجتمع عليها أهل منىً ما أقلوها، فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الإنس والجن.
ثم بعد ذلك يأتي مشهد آخر وهو عرض العمل، فإن كان الإنسان محسناً جاءه عمله في أحسن صورة وأحسن رائحة، فيقول له: أبشر بخير، فيقول: وجهك الوجه الذي يبشر بخير فمن أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح، وأنا أنيسك في غربتك، وإن كان مسيئاً جاءه عمله في أقبح صورة وأنتن رائحة، ونحن الآن نرى بعض الصور نتقزز منها وننفر منها، فالإنسان الآن إذا رأى كلباً وهو حيوان بهيمي، أو رأى نمراً أو أسداً أو ذئباً فإنه يرتاع منه ويهرب منه، والذي يأتيه عمله السيء في صورته في القبر هو أقبح صورة يمكن أن تقع عليه عينه، فيأتيه بأنتن رائحة، ونحن الآن نفر من الروائح المنتنة، فيأتيه في أنتن رائحة وأقبح صورة، فيقول: أبشر بسوء، فيقول: وجهك الوجه الذي يبشر بسوء فمن أنت؟ فيقول: أنا عملك السيء, وأنا صاحبك في غربتك، فيبقى معه مدة بقائه تحت الأرض، يمكن أن يمضي عليه آلاف السنين معه وهو قرينه في تلك الحفرة الضيقة، وكل يومٍ يزداد نتناً وسوءً وهو مرافق له في ذلك المكان.
ثم بعد ذلك يأتي مشهد آخر عظيم: وهو عرض مقامه من الجنة ومقامه من النار، فإن كان محسناً بُشر بمقعده من الجنة، وعُرض عليه مقعده من النار، فقيل: هذا مقعدك من النار لو لم تتق الله, وقد بدلك الله خيراً منه، وإن كان مسيئاً عُرض عليه مقعده من النار، وقيل له: هذا مقامك الذي اخترت لنفسك، فعُرض عليه مقعده من الجنة، فقيل له: هذا المقام الذي كان ينتظرك لو أحسنت، ولكنك اخترت لنفسك خلاف ذلك.
فيبقى الإنسان في نعيم القبر أو عذابه، وهذا العذاب أو النعيم كلاهما روحي لا يتعلق بالبدن، فالأبدان أكثرها تأكلها التراب، وتكون مراتع للدود، ولكنه يبقى النعيم والعذاب على الروح، فتبقى منعمة أو معذبة، وأرواح أهل السعادة في حواصل طير خضر تتفيءُ في ثمار الجنة.. وفي ظلال الجنة, وتأكل من ثمارها, وتشرب من أنهارها حتى يأتي البعث.
ثم بعد ذلك بينما أهل القبور في قبورهم مشغولون، وبينما أهل الأرض يُتخطفون؛ إذ يأذن الله للملك في النفخ في الصور وهو إسرافيل، وقد التقم الصور الآن وأصغى ليتاً أي: رفع إحدى شقي رقبته ينتظر الإذن له بذلك، فينفخ فيه نفخة الفزع فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ[الزمر:68]، ينفخ فيه نفخة الفزع فيصعق لها الخلائق جميعاً، ويمكثون أربعين سنة، ثم ينفخ فيه النفخة الثانية فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ[الزمر:68]، وحينئذٍ تهز الأرض هزاً وتبس بساً, فيزول ما فيها من الجبال فتكون كالعهن المنفوش، ويزول ما فيها من الأودية, وتُخرج ما فيها من الكنوز والقبور والأجداث يتكفأها الجبار جل جلاله بيمينه خبزة، يتكفأها لأهل الجنة كما يتكفأ أحدكم خبزته، وتبدل الأرض غير الأرض فتهيأ للناس الساهرة، وتشقق السماء فهي يومئذٍ واهية، وتطوى كطي السجل للكتب، ويسمع الناس منها تلك الأصوات المروعة المهولة، فنحن الآن إذا سمعنا صوت رعدٍ شديد أو انفجارٍ كبير خفنا منه خوفاً شديداً، فكيف بتشقق السماء التي سمكها خمسمائة عام من حجرٍ صلب هاوي، فتشقق السموات السبع في وقت واحد وتطوى، ثم بعد ذلك ينادي المنادي في الناس: هلموا إلى ربكم، فيخرجون من الأجداث إلى ربهم ينسلون، ينتفض الإنسان ويقوم من ضجعته، وقد أكلت التراب عظامه وتفرقت، وقد كنا في وقت قريب في زيارةٍ لمقبرةٍ فرأينا فيها بعض الأجداث، فإذا العظام بيضاء متفرقة في مكانها من الجمجمة إلى الأخمص، فكنت أقول للذين معي: سرعان ما يقوم هؤلاء وينتفضون ويخرجون من الأجداث إلى ربهم ينسلون، فوقت مخرجهم قريب، وسيأتي لا محالة, فيقومون فجأة من هذه التربة التي قد أكلت عظامهم، ثم ينشرون ويخرجون إلى الساهرة كما يخرج الجراد يطير، أو كالفراش المبثوث يطير فيجتمع في الساهرة، وهي أرض كالقرصة البيضاء، يقف الواقف على طرفها فيرى طرفها الآخر، يحيط بها الناظر، ومع ذلك يجتمع فيها الخلائق من أولهم إلى آخرهم يجتمعون فيها جميعاً.
فإذا تتام جمعهم فيها، واجتمعوا فيها جميعاً حفاةً عراةً غرلاً مشاةً كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ[الأنبياء:104]، حينئذٍ تدنو الشمس فوق رءوسهم حتى تكون كالميل، ويؤتى بجهنم تُقاد بسبعين ألف زمام، في كل زمام سبعون ألف ملك، فتحيط بالناس من كل جانب، وبعد ذلك يشتد بهم العرق، وهو يسيح في الأرض سبعين ذراعاً، ثم يرتفع فوقها، فمن الناس من يصل عرقه إلى كعبيه، ومنهم من يصل إلى ركبتيه، ومنهم من يصل إلى حقويه، ومنهم من يصل إلى سرته، ومنهم من يصل إلى ثدييه، ومنهم من يصل إلى ترقوتيه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً، وهذا العرق الشديد يخوضون فيه كالبحار.
ثم بعده إذا طال بهم الموقف تأتي الشفاعة، فيلهمون الرجوع إلى الأنبياء، ( فيأتون آدم فيقولون: يا آدم! أنت أبو البشر, خلقك الله بيمينه، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وجعلك خليفته في الأرض، فاشفع لنا إلى ربنا إما إلى جنة وإما إلى نار، فيقول آدم: نفسي نفسي, ربِّ لا أسألك إلا نفسي، إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني قد أذنبت فأكلت من الشجرة التي لم يؤذن لي بها، ولكن اذهبوا إلى نوح، فيأتونه فيقولون: يا نوح! أنت أبو البشر بعد آدم، وأول الرسل إلى أهل الأرض فاشفع لنا إلى ربنا إما إلى جنة وإما إلى نار، فيقول نوح: نفسي نفسي, ربِّ لا أسألك إلا نفسي، إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله ولن يغضب بعده مثله، فإني قد سألت الله ما لم يأذن لي به، ولكن اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتونه فيقولون: يا إبراهيم! قد اصطفاك الله من خلقه خليلاً، فاشفع لنا إلى ربنا إلى جنة وإما إلى نار، فيقول إبراهيم: نفسي نفسي, ربِّ لا أسالك إلا نفسي، إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وهل كنت إلا خليلاً من وراء وراء، فإني كذبت ثلاث كذبات، ولكن اذهبوا إلى موسى، فيأتونه، فيقولون: يا موسى! قد اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، فاشفع لنا إلى ربنا إما إلى جنة وإما إلى نار، فيقول موسى: نفسي نفسي, ربَّ لا أسألك إلا نفسي، إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني قتلت نفساً لم يؤذن لي بها، ولكن اذهبوا إلى عيسى، فيأتونه فيقولون: يا عيسى! أنت كلمة الله ألقاها إلى مريم وروح منه، فاشفع لنا إلى ربنا إما إلى جنة وإما إلى نار، فيقول عيسى: نفسي نفسي, ربِّ لا أسألك إلا نفسي، إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني عُبدت من دون الله لا يجد شيئاً يذكره غير ذلك، ولكن اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فيأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولون: يا محمد! أنت إمام الرسل وخاتمهم، فاشفع لنا إلى ربنا إما إلى جنة وإما إلى نار، فيقول: أنا لها، فيخر ساجداً تحت العرش، فيلهمه الله محامد يثني عليه بها لا يحسنها في الدنيا، ولم يثنِ بها أحد قط على الله جل جلاله، فيقول له: يا محمد! ارفع رأسك، واشفع تشفع، واسأل تعطى )، فيشفع للناس جميعاً في الخروج من الساهرة, ويشفع لأمته خاصةً، فيتجلى الباري جل جلاله لفصل الخصام، وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ * يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ[الحاقة:17-18]، يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ[الطارق:9].
فيُعرض الناس على الله جل جلاله ويحاسبهم وهو أسرع الحاسبين، فمنهم من تكون محاسبته طرفة عين، ومنهم من تكون محاسبته كمدة ما بين الظهر والعصر، ومنهم من تكون محاسبته كيومٍ وليلة، ومنهم من تكون محاسبته كما بين الجمة إلى الجمعة، ومنهم من تكون محاسبته كمدة شهر رمضان، ومنهم من تكون محاسبته كالسنة، ومنهم من تكون محاسبته على قدر عمره، ومنهم من تكون محاسبته بمآت السنين أو آلافها.
و( من نوقش الحساب عُذب )، فيوقفهم الجبار على أعمالهم، ويخلو بعبده المؤمن فيبسط عليه كنفه، فيقول: أي عبدي أتذكر كذا؟ أتذكر يوم كذا إذ عصيتني وقد كنت قد نهيتك عنه؟ فيقول: يا رب! أذكره وكنت قد نسيته، فيقول: لكنني لم أنسَ، وحينئذٍ يستر الله من شاء بستره الجميل، فلا يطلع الناس على أخطائهم وسيئاتهم، ويعاملهم الله باللطف الجميل وبستره، فلا يكشف عنهم ستره, ولا يفضحهم على رءوس الملأ، وآخرون -عائذاً بالله منهم- يُفتضحون الفضيحة الكبرى، فيعلنون خطاياهم وأخطاءهم على رءوس الملأ، وكلاً منهم طائره مختوم في عنقه وهو يحمله، كما قال الله تعالى: وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا[الإسراء:13-14]، فيقرأ كتابه بأعلى صوته يقول: فعلت كذا يوم كذا، وتركت كذا يوم كذا، وفعلت كذا ليلة كذا، وتركت كذا ليلة كذا، وهو يُقر بفضائحه كلها وأعماله على رءوس الملأ، بحضرة الجبار جل جلاله هو وملائكته الكرام وأنبيائه والخلائق جميعاً، من لدن آدم إلى نهايتهم.
ثم بعد ذلك يُعطى الناس كتبهم إما بأيمانهم وإما بشمائلهم، فمن أراد الله به الخير بيَّض وجهه حتى يخترق في النور مسيرة خمسمائة عام، يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ[آل عمران:106-107].
ثم بعد ذلك تطيب أيمانهم وتطهر، ويجعل فيها طيب لم تعلم الخلائق مثله، ثم يُعطون كتبهم بأيمانهم تلقاء وجوههم، فيصيحون من الفرح، فيقول أحدهم: هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ[الحاقة:19-24].
وأما من لم يكن من أهل ذلك المقام، فإنه تُغل يده اليمنى ملطخة بأنواع القذر، فتغل إلى عنقه بسلسلة لا يستطيع التصرف فيها، ثم يرجع فيثقب ما بين ثدييه حتى تخرج السلسلة من بين كتفيه، ثم تدخل شماله بين ثدييه حتى تخرج من وراء ظهره ملطخة بالدم والصديد والقيح المنتن، ثم يُعطى بها كتابه وراء ظهره، فينتزعه من صدره انتزاعاً شديداً وهو يتألم غاية الألم، ويتمنى أن يموت في تلك اللحظة، فإذا انتزع كتابه صاح بخزيٍ وتشاؤم: يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ[الحاقة:27]، أي: ليت هذا الثقب كان المميت القاضي على الحياة، مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ[الحاقة:28-29]، فيقول الله لملائكة الشمال: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ[الحاقة:30-32]، عائذاً بالله من ذلك!
ثم بعد هذا ينتقلون عندما تُزلف الجنة لأهلها وتقرب النار دونها، فيُنصب عليها الصراط، فيستبقون إلى الصراط، وفي طريقهم يأتي أهل الإيمان ومعهم من كان معهم من أهل النفاق في الحياة الدنيا، من أقاربهم وجيرانهم ومن يعرفون، فيقال لأولئك: انتظروا، فينتظرون قليلاً ويتقدم أهل الإيمان، فيضرب بينهم بسور له باب باطنه في الرحمة وظاهره من قبله العذاب، يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ المَصِيرُ[الحديد:14-15]، وبعد ذلك يستبقون الصراط، فاستبقوا الصراط وهم ظامئون أشد الظمأ، من شدة اليوم الذي كانوا فيه، ومن حر جهنم وقد رأوها يركب بعضها بعضاً، ويسمعون من كان من أهلها أصواتها وغضبها: إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا* وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا * لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا[الفرقان:12-14].
وأما الناجون منها فقد قال الله فيهم: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ المَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ[الأنبياء:101-104].
وحينئذٍ يردون حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم، ماؤه أشد بياضاً من اللبن, وأحلى من العسل، وكيزانه بعدد نجوم السماء، لا يظمأ من شرب منه أبداً، يُطرد دونه طائفتان من الناس، أصحاب البدع المغيرون المبدلون، فإنهم يُضربون كما تُضرب غرائب الإبل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يقول: ( اللهم سلِّم سلَّم)، ودعاء الأنبياء يومئذٍ: اللهم سلِّم سلِّم، فيرى أولئك الذين يُطردون دونه كما تطرد غرائب الإبل، وهو يعرفهم فيقول: (يا رب أمتي أمتي، فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم، فيقول: فسحقاً فسحقاً فسحقاً)، هو الذي أرسل شفاعته وهو يدعو عليهم فيقول: فسحقاً فسحقاً فسحقاً.
والقسم الثاني من الذين يُطردون دونه: أعوان الظلمة، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إنه سيستعمل عليكم أمراء، يكذبون في الحديث ويظلمون الناس، فمن صدقهم في كذبهم أو أعانهم على ظلمهم فلن يرد عليَّ الحوض، فأولئك باعوا آخرتهم بدنيا غيرهم)، فيطردون دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويشرب المؤمنون من حوضه شربة هنيئةً لا يظمئون بعدها أبداً، بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فرطهم على الحوض، ويعرفهم بآثار الوضوء، كما قيل له صلى الله عليه وسلم: بما تعرف أمتك يوم القيامة؟ فقال: (إن أمتي يردون عليَّ الحوض غراً محجلين من أثر الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل، فيحشرون تحت لوائه وبيده لواء الحمد يرفعه)، وينادى كل قومٍ بإمامهم، فكل طائفةٍ من الناس يمثل لها من كانت تقتنع به فينادون به: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا * وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا[الإسراء:71-72].
ثم بعد أن يستبقوا الصراط فيمرون عليه، فمنهم من يمر كالبرق الخاطف لا يتأخر طرفة عين حتى يتجاوز تلك المسافات كلها، ومنهم من يمر كمشي الرياح، ومنهم من يمر كمشي الدواب المسرعة أو البهائم، ومنهم من يمر كالإنسان الذي يشتد عدواً يجري، ومنهم من يمشي مشياً، ومنهم من يزحف على مقعدته جالساً، وهم ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ناجٍ لا يتأثر بكلاليب الصراط، يمشيه الله عليه فلا يتضرر به.
والقسم الثاني: مخدوش، وهم أنواع منهم تضرب عينه وشدقه، ومنهم من يذهب أنفه وفمه، ومنهم من تذهب يداه ورجلاه، ومنهم من تنشق بطنه ويذهب بعض أمعائه، وهم في طريقهم سائرون كل بحسب ما هو أهل له، ثم ينجو بعد ذلك وقد فارقه ما فارقه من بدنه.
والقسم الثالث: هم المكردسون في نار جهنم، يسقطون من فوق الصراط فيهوون، يمكثون سبعين خريفاً يتردون حتى يصلوا إلى نار جهنم والعياذ بالله.
وإذا نجا الناجون عن الصراط فأول ما يواجههم شجرة عظيمة، يرونها فيسألون الله أن يدنيهم إليها حتى يستظلوا بظلالها ويشربوا من مائها، فإذا وصلوا إليها وجدوا فيها نهرين: نهراً خارجاً, ونهراً داخلاً، فالنهر الخارج يؤمرون فيغتسلون منه، فمن كان خُدش على الصراط يعود إليه ما ذهب منه كأحسن ما كان، ومن كان به عيب في خلقته في الدنيا أو نقص أو تغير في لونٍ يعود على أحسن ما كان، فمن كان أسود في الدنيا يكون على لون أهل الجنة كالملح أو كالقمر ليلة البدر، ويجملون جميعاً على أحسن صورة، والنهر الداخل يؤمرون فيشربون منه وإذا شربوا منه لم يخرج من أبدانهم بعد ذلك إلا الرشح؛ وهو العرق في صورة المسك ولونه ورائحته، وينطلقون فيستقبلهم ولدان الجنة، ينادونهم ويفرحون بهم غاية الفرح، فيغنون لهم ويطربونهم، ويرجعون إلى الجنة, وكل واحدٍ منهم ذكراً كان أو أنثى أبصر وأدل على مكانه في الجنة من بيته في الحياة الدنيا، فلا يميل عنه يميناً ولا شمالاَ، بل يستمر حتى يدخل منزله في الجنة.
وقد جاء في وصف دخول الرجال الجنة: ( أن الرجل إذا دخل منزله استقبلته إحدى نسائه وقد جاءها ولدانه، فيقولون: جاء أهل الجنة وفيهم فلان، فتقول: أنت رأيته؟ فيقول: نعم، وهو على أثري، فتقف في الباب تنتظره، فإذا جاء وجد عليها سبعين حلة، ومع ذلك يجعل يده بين كتفيها فيرى أصابعه من بين ثدييها من النور ).
وجاء في وصف نساء الجنة شيء عجيب، فجاء في وصفهن أن إحداهن يُرى مخ ساقها من خارجه، وأنها لو بصقت في البحر لصار عذباً من بصاقها، ولو كشفت عن وجهها لحظة لأضاء لها ما بين المشرق والمغرب، وأهداب عينها كجناح النسر، وحاجبها كالهلال في الاستقواس والسعة، وقد تعودن على حسن الكلام، فمن كان في الجنة لا يسمع شيئاً يكرهه، ولا يرى شيئاً يكرهه، لا يرى قذراً ولا قمامة، ولا وسخاً ولا لوناً يكرهه، ولا يسمع فيها أي صوت يكرهه، فإنهم يناديهم المنادي من عند الله جل جلاله: ( يا أهل الجنة! إن لكن أن تصحوا فلا تسقموا، وأن تشبوا فلا تهرموا، وأن تُكرموا وتُنعموا )، لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا[الواقعة:25-26]، وهم في خلود أبدي مستمر، كل يومٍ يزدادون من النعيم ما لم يكن يخطر على بالهم، ( أعددت لعبادي ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر )، تستقبلهم الملائكة وهم يسلمون عليهم من كل باب: سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ[الزمر:73]، ويجمعون بأهليهم وذرياتهم وأقاربهم فيجتمعون معهم جميعاً وتوصل أرحامهم، ولا يرى الإنسان من يكرهه حتى لو كان من أهل الجنة يزول ما في صدورهم من غل: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ[الحجر:47].
وما بها من الملذات والشهوات لا يُمل: كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا[البقرة:25]، وكذلك لا ينقطع، فاللذة الأولى التي ينالها الإنسان عندما يصل إليه شيء من روحها وريحانها تبقى معه ولو جاء بعدها مليارات اللذات، فهي باقية والتي بعدها باقية، والتي بعدها باقية، يتواتر ذلك الخير كله، وأبلغ ما فيها من النعيم المقيم لذة النظر إلى وجه الله الكريم: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ[القيامة:22-23]، بينما أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع علهم نور من فوقهم، فإذا الرب جل جلاله يناديهم من فوقهم: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ[يس:58]، يسلم عليهم الجبار جل جلاله مباشرةً، فما ظنكم بآذان تسمع كلام الجبار وسلامه، وما ظنكم بوجوه تنظر إليه كفاحاً، (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته)، وهم متفاوتون في رؤيته؛ فمنهم من يراه في أوقات الصلوات، ومنهم من لا يحجب عنه في أية لحظة، ومنهم من يراه من الجمعة إلى الجمعة، ومنهم من يراه من رمضان إلى رمضان، ومنهم من يراه مرة في السنة، ولكن أهل الجنة يرونه جميعاً على تفاوت منازلهم، فيستزيدهم الجبار جل جلاله أن يناديهم لزيارته، فيخرجون إليه فتهب عليهم رياح فيزدادون حسناً وبهاءً وجمالاً ونوراً، وتزداد ثيابهم حسناً، وتفرش لهم مفارش الجنة، ويجدون أرضاً هي من الزعفران والعطر، ويجلسون على كراسي النور والمقاعد، فيحل الله عليهم رضوانه الأكبر الذي لا سخط بعده، ويقول: تمنوا، وتنصب له سوق لا تحتاج إلى الأزمان، فكل من رأى فيها شيء يعجبه فهو له بالغاً ما بلغ، فكل ما يدعون فهو له، لا يحتاج إلى ثمن، ويرجعون إلى أهلهم في الجنة فيقولون: والله لقد ازدتم حسناً بعدنا، فيقولون: وأنتم والله لقد ازدتم حسناً بعدنا.
وأما أهل النار - عائذاً بالله- فإن لهم استقبالاً يخالف ذلك، فعلى النار تسعةً عشر وهم الزبانية، مهيئون لهذه الخدمة، ومالك خازن النار هو قائدهم، فمن دخلها فإنه يجد فيها الجحيم الشديد الحر، ويجري فيها الزمهرير الشديد البرد، ويقوى ويضخم، فينفخ جسمه حتى يكون مقعده كما بين مكة والمدينة، أربعمائة كيلو، ولأقدامهم فيها في السلاسل كالجبال السود المتراكمة، وضرس أحدهم في النار كجبل أُحد، يضخمون ليقووا على العذاب المستمر الأليم عائذاً بالله.
فيجدون فيها من النسل والرائحة الكريهة وأنواع الأذى ما لا يمكن أن يخطر على بال، فكل معذب بحسب أنواع عمله، فمن النساء من تعلق بثديها ويجعل رأسها إلى أسفل، ومن الرجال من يمسك شدقه فيجدب بمجاديف شقه الأيمن إلى وراء ظهره، فإذا وصل إليه جدب شدقه الأيسر، فإذا وصل عاد شقه الأيمن إلى مكانه، ولا يزال بهذا العذاب، ومنهم من يعلق بلسانه وهو في شدة العذاب، وشرابه فيها الحميم الماء الساخن الذي تذوب له الأمعاء، ولكنها سرعان ما تعود فتذوب مرة أخرى، كل جرعةٍ يتجرعها منه الإنسان تذيب ما في بطنه ثم يعود مرة أخرى، والجلود تنضج: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا[النساء:56]، في كل ثانية يحترق الإنسان ويعود مرة أخرى، ولا يسمع شيئاً يحبه أبداً، فالرب جل جلاله وهو أرحم الراحمين لا يسمعون منه كلاماً إلا قوله: اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ[المؤمنون:108-111].
فالوجوه التي كانوا يفخرون بها على ما فيها من الحسن والجمال تصير أكره شيءٍ وأبغضه، وقد لفحتها النار والعياذ بالله، ويستمر العذاب عليهم كلما توقعوا خروجاً منها أو نهايةً لها بدأوها من جديد، كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ[الحج:22].
وأبلغ ما فيها من العذاب أن الله لا يكلمهم ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ[المطففين:15]، وهم مستمرون في ذلك حتى من كان منهم من أهل الإيمان يُخرج منها بعد مدة طويلة، وقد امتحشوا، فيُخرج منها من أخرج بشفاعة شافعين، وإذا انتهت شفاعة شافعين يقول الله لملائكته: انتهت شفاعات الشافعين وبقيت شفاعة أرحم الراحمين، فيحثي الجبار بيمينه ثلاث حثيات من النار، يدخلهم الجنة وقد رضي عنهم من أهل الإيمان، ويقول لملائكته: انظروا من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان أو من خير فأخرجوه، ثم يمكث ما شاء أن يمكث، فيقول: أخرجوا من النار من قال: لا إله إلا الله، فيُخرجون منها وقد اسودوا وامتحشوا، فيلقون في نهر الحياة فتنبت أجسادهم كما تنبت الحبة في حميل السيل، أي: البلقة الحمقاء التي تنبت في جانب السيل، فتخرج صفراء ملتوية، ويسميهم أهل الجنة: الجهنميين، فيخرجون من النار فيدخلون الجنة بعد ذلك.
وآخر من يدخل الجنة رجل كان آيساً منها، وقد جاء يزحف على مقعدته، فرأى شجرةً فقال: أي ربي إذا صرفت وجهي عن حر جهنم لا أسألك بعدها شيئاً، فيصرف وجهه عن حرها، فيرى تلك الشجرة فيقول: فيمكث صابراً ما شاء الله أن يمكث، ثم يقول: يا ربي قربني إلى تلك الشجرة لأستظل بها، فيقول: ألم تعاهدني ألا تسألني بعدها شيئاً؟ فيقول: بلى ولكنك أرحم الراحمين، فيدنيه إلى تلك الشجرة، فيرى شجرة أخرى أحسن منها فيصبر، ثم يسأله فيقول: ألم تعاهدني أن لا تسألني بعدها شيئاً، فيقول: بلى ولكنك أرحم الراحمين، ثم يرى الجنة فيقول: أي ربِ قربني إليها حتى يصل إليه شيء من روحها وريحانها، فيقول: ألم تعاهدني ألا تسألني بعدها شيئاً، فيقول: بلى ولكنك أرحم الراحمين، فيقول له: ادخل الجنة، فيذهب فيدخلها فيرجع، فيقول: يا ربِ وجدتها ملآى، يعني: يخيل إليه أنها ملآى لا يجد فيها مكاناً، فيقول: ارجع فإن لك مثل الدنيا وعشرة أضعافها معها، فيقول: يا ربِ أتهزأ بي وأنت الملك؟ فيقول: لا، فيذهب فيجد فيها الدنيا وعشرة أضعافها معها، وهذا آخر من يدخل الجنة وهو أقلهم حظاً فيها.
فإذا أدركنا هذا البون الشاسع بين أهل الجنة وأهل النار، فلابد أن نستعد لدخول الجنة, وأن نتهيأ لذلك بالأعمال الصالحة، وأن نحذر دخول النار، وأن نخاف منها خوفا ًشديداً, ويقتضي منا ألا نعمل بعمل أهلها، وأن نتوب إلى الله في ما مضى، وأن نحسن في المستقبل.
وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقني وإياكن وإياكم أجمعين الفوز بالجنة والنجاة من النار، وقد قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ[آل عمران:185].
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر