قال المصنف رحمه الله: [ يقول تعالى: واذكروا يا بني إسرائيل! نعمتي عليكم في خرق العادة لكم في شأن البقرة، وبيان القاتل من هو بسببها، وإحياء الله المقتول، ونصه على من قتله منهم.
ذكر بسط القصة:
قال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن عبيدة السلماني ، قال: كان رجل من بني إسرائيل عقيماً لا يولد له، وكان له مال كثير، وكان ابن أخيه وارثه، فقتله ثم احتمله ليلاً؛ فوضعه على باب رجل منهم، ثم أصبح يدعيه عليهم حتى تسلحوا، وركب بعضهم على بعض فقال ذوو الرأي منهم والنهى ].
قوله: (والنهى)، أي: العقل، كما قال تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى [طه:54].
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فقال ذوو الرأي منهم والنهى: علام يقتل بعضكم بعضاً، وهذا رسول الله فيكم؟ فأتوا موسى عليه السلام فذكروا ذلك له، فقال: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [البقرة:67] قال: فلو لم يعترضوا لأجزأت عنهم أدنى بقرة، ولكنهم شددوا فشدد عليهم؛ حتى انتهوا إلى البقرة التي أمروا بذبحها، فوجدوها عند رجل ليس له بقرة غيرها، فقال: والله لا أنقصها من ملء جلدها ذهباً، فأخذوها بملء جلدها ذهباً؛ فذبحوها، فضربوه ببعضها فقام، فقالوا: من قتلك؟ فقال: هذا -لابن أخيه- ثم مال ميتاً، فلم يعط من ماله شيئاً فلم يورث قاتل بعد ].
هذا الحديث سنده جيد إلى عبيدة السلماني ، لكنه أخذه من أخبار بني إسرائيل، فقد أخذ عدداً من أخبار بني إسرائيل.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ورواه ابن جرير من حديث أيوب عن محمد بن سيرين عن عبيدة بنحو من ذلك، والله أعلم.
ورواه عبد بن حميد في تفسيره: أنبأنا يزيد بن هارون به، ورواه آدم بن أبي إياس في تفسيره عن أبي جعفر هو الرازي عن هشام بن حسان به.
وقال آدم بن أبي إياس في تفسره: أنبأنا أبو جعفر الرازي ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، في قول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67] قال: كان رجل من بني إسرائيل، وكان غنياً، ولم يكن له ولد، وكان له قريب وكان وارثه؛ فقتله ليرثه، ثم ألقاه على مجمع الطريق، وأتى موسى عليه الصلاة والسلام فقال: إن قريبي قتل وأني إلى أمر عظيم].
قوله: وإني على أمر عظيم، يعني: أتى علي أمر عظيم من خبر قتله، بمعنى: أصابني هم وأصابتني شدة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وإني لا أجد أحداً يبين لي من قتله غيرك يا نبي الله! قال: فنادى موسى في الناس فقال: أنشد الله من كان عنده من هذا علم إلا يبينه لنا، فلم يكن عندهم علم، فأقبل القاتل على موسى عليه الصلاة والسلام فقال له: أنت نبي الله، فسل لنا ربك أن يبين لنا، فسأل ربه فأوحى الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67] فعجبوا من ذلك فقالوا: أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ [البقرة:67-68] يعني: لا هرمة، وَلا بِكْرٌ [البقرة:68] يعني: ولا صغيرة، عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ [البقرة:68] أي: نصف بين البكر والهرمة، قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا [البقرة:69] أي صاف لونها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ [البقرة:69] أي: تعجب الناظرين، قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ [البقرة:70-71] أي: لم يذللها العمل، تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ [البقرة:71] يعني: وليست بذلول تثير الأرض وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ [البقرة:71] يعني: ولا تعمل في الحرث،مُسَلَّمَةٌ [البقرة:71] يعني: مسلمة من العيوب، لا شِيَةَ فِيهَا [البقرة:71] يقول: لا بياض فيها، قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ [البقرة:71] قال: ولو أن القوم حين أمروا بذبح بقرة استعرضوا بقرة من البقر فذبحوها لكانت إياها، ولكن شددوا على أنفسهم؛ فشدد الله عليهم، ولولا أن القوم استثنوا فقالوا: وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ [البقرة:70] لما هدوا إليها أبداً ].
هذا السؤال من تعنتات بني إسرائيل، ومخالفتهم لأنبيائهم عليهم الصلاة والسلام، ولو أنهم أخذوا أي بقرة لأجزأت، لكنهم تعنتوا فقالوا: لا ندري البقرة، أصغيرة أو كبيرة؟ فلما أخبروا بأنها وسط، قالوا: لا ندري ما اللون؟ هل هذه البقرة صفراء، أم سوداء، أم حمراء؟ فلما أخبروا باللون، قالوا: لا ندري، هل تعمل أم لا تعمل؟ فالبقر تشابه علينا، ونريد وصفاً واضحاً، فبين الله لهم أنها لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث، أي: لا تعمل، مسلمة، ولا شية فيها، أي: ليس فيها لون آخر.
فكلما سألوا ضُيق عليهم الأمر، وأُعطوا أوصافاً تضيق الدائرة، ولو أنهم أخذوا أي بقرة لأجزأت، ولكنهم تعنتوا وشددوا، فشدد الله عليهم.
ومن فوائد هذه القصة: أن فيها تحذيراً لهذه الأمة من التشدد والتعنت، قال عليه الصلاة والسلام: (ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم) فكثرة المسائل أي: التعنت، سبب للهلاك، ولذلك قال الله: فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ [البقرة:71]، أي: مع كل هذه الأوصاف والتعنتات ما كادوا ليفعلوا، لولا أنهم استثنوا ووفقهم الله ما كادوا يفعلون.
فكثرة الأسئلة التي يراد منها التعنت، وإيقاع المسئول في العنت والحرج، كل هذا منهي عنه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم) فينبغي للمسلم أن يحذر من التعنت والتشدد في المسائل، وكثرة الأسئلة عن أمور لم تقع بعد، أو التي فيها إشكال، وإنما الواجب على المسلم أن يسأل أسئلة واقعة، أو أسئلة تمس الحاجة إليها، ويكون قصده الفائدة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فبلغنا أنهم لم يجدوا البقرة التي نعتت لهم إلا عند عجوز، وعندها يتامى وهي القيمة عليهم، فلما علمت أنه لا يزكو لهم غيرها؛ أضعفت عليهم الثمن، فأتوا موسى فأخبروه أنهم لم يجدوا هذا النعت إلا عند فلانة، وأنها سألت أضعاف ثمنها، فقال موسى : إن الله قد خفف عليكم فشددتم على أنفسكم، فأعطوها رضاها وحكمها، ففعلوا واشتروها فذبحوها، فأمرهم موسى عليه الصلاة والسلام أن يأخذوا عظماً منها فيضربوا به القتيل، ففعلوا، فرجع إليه روحه، فسمى لهم قاتله، ثم عاد ميتا كما كان، فأخذ قاتله وهو الذي كان أتى موسى عليه الصلاة والسلام فشكا إليه، فقتله الله على أسوأ عمله.
وقال محمد بن جرير : حدثني محمد بن سعد ، حدثني أبي، حدثني عمي، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله في شأن البقرة، وذلك أن شيخاً من بني إسرائيل على عهد موسى عليه الصلاة والسلام كان مكثراً من المال، وكان بنو أخيه فقراء لا مال لهم، وكان الشيخ لا ولد له، وكان بنو أخيه ورثته، فقالوا: ليت عمنا قد مات فورثنا ماله، وإنه لما تطاول عليهم ألا يموت عمهم أتاهم الشيطان فقال لهم: هل لكم إلى أن تقتلوا عمكم فترثوا ماله، وتغرموا أهل المدينة التي لستم بها ديته؟
قوله: (وتغرموا أهل المدينة)، يعني: تغرمونهم الدية، أي: يقتلونه ويضعونه على باب المدينة ويدعونه.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وذلك أنهما كانتا مدينتين كانوا في إحداهما، وكان القتيل إذا قتل وطرح بين المدينتين قيس ما بين القتيل والقريتين، فأيتهما كانت أقرب إليه غرمت الدية.
وأنهم لما سول لهم الشيطان ذلك، وتطاول عليهم أن لا يموت عمهم؛ عمدوا إليه فقتلوه، ثم عمدوا فطرحوه على باب المدينة التي ليسوا فيها، فلما أصبح أهل المدينة جاء بنو أخي الشيخ فقالوا: عمنا قتل على باب مدينتكم، فوالله لتغرمن لنا دية عمنا، قال أهل المدينة: نقسم بالله ما قتلنا، ولا علمنا قاتلاً، ولا فتحنا باب مدينتنا منذ أغلق حتى أصبحنا، وإنهم عمدوا إلى موسى عليه الصلاة والسلام، فلما أتوه قال بنو أخي الشيخ: عمنا وجدناه مقتولاً على باب مدينتهم، وقال أهل المدينة: نقسم بالله ما قتلناه، ولا فتحنا باب المدينة من حين أغلقناه حتى أصبحنا.
وإن جبرائيل جاء بأمر السميع العليم إلى موسى عليه الصلاة والسلام، فقال: قل لهم: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67] فتضربوه ببعضها.
وقال السدي : وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67] قال: كان رجل من بني إسرائيل مكثراً من المال، فكانت له ابنة، وكان له ابن أخ محتاج، فخطب إليه ابن أخيه ابنته؛ فأبى أن يزوجه، فغضب الفتى وقال: والله لأقتلن عمي، ولآخذن ماله، ولأنكحن ابنته، ولآكلن ديته، فأتاه الفتى وقد قدم تجار في بعض أسباط بني إسرائيل، فقال يا عم! انطلق معي فخذ لي من تجارة هؤلاء القوم لعلي أن أصيب منها؛ فإنهم إذا رأوك معي أعطوني، فخرج العم مع الفتى ليلاً؛ فلما بلغ الشيخ ذلك السبط قتله الفتى ثم رجع إلى أهله، فلما أصبح جاء كأنه يطلب عمه، كأنه لا يدري أين هو، فلم يجده، فانطلق نحوه، فإذا بذلك السبط مجتمعين عليه فأخذهم وقال: قتلتم عمي فأدوا إلي ديته، فجعل يبكي ويحثو التراب على رأسه وينادي: واعماه! فرفعهم إلى موسى فقضى عليهم بالدية، فقالوا له: يا رسول الله! ادع لنا ربك حتى يبين لنا من صاحبه، فيؤخذ صاحب القضية، فوالله إن ديته علينا لهينة؛ ولكن نستحي أن نعير به، فذلك حين يقول تعالى: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ [البقرة:72] فقال لهم موسى : إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67] قالوا: نسألك عن القتيل وعمن قتله، وتقول: اذبحوا بقرة! أتهزأ بنا؟ قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [البقرة:67] قال ابن عباس : فلو اعترضوا بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم، ولكن شددوا وتعنتوا على موسى ، فشدد الله عليهم، فقالوا: قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ [البقرة:68] والفارض: الهرمة التي لا تولد، والبكر: التي لم تلد إلا ولداً واحداً، والعوان: النصف التي بين ذلك ]
قوله: (النصف) هو بفتح الصاد.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ النصف التي بين ذلك التي قد ولدت وولد ولدها، فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا [البقرة:68-69] قال: نقي لونها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ [البقرة:69] قال: تعجب الناظرين، قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا [البقرة:70-71] من بياض ولا سواد ولا حمرة، قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ [البقرة:71] فطلبوها فلم يقدروا عليها.
وكان رجل من بني إسرائيل من أبر الناس بأبيه، وإن رجلا مر به معه لؤلؤ يبيعه، وكان أبوه نائماً تحت رأسه المفتاح، فقال له الرجل: تشتري مني هذا اللؤلؤ بسبعين ألفا؟ فقال له الفتى: كما أنت حتى يستقيظ أبي فآخذه منك بثمانين ألفاً، قال الآخر: أيقظ أباك وهو لك بستين ألفاً، فجعل التاجر يحط له حتى بلغ ثلاثين ألفاً، وزاد الآخر على أن ينتظر أباه حتى يستيقظ حتى بلغ مائة ألف، فلما أكثر عليه قال: والله لا أشتريه منك بشيء أبداً، وأبى أن يوقظ أباه؛ فعوضه الله من ذلك اللؤلؤ أن جعل له تلك البقرة؛ فمرت به بنو إسرائيل يطلبون البقرة، وأبصروا البقرة عنده فسألوه أن يبيعهم إياها بقرة ببقرة، فأبى، فأعطوه اثنتين فأبى، فزادوه حتى بلغوا عشراً، فقالوا: والله لا نتركك حتى نأخذها منك، فانطلقوا به إلى موسى عليه الصلاة والسلام، فقالوا: يا نبي الله! إنا وجدناها عند هذا وأبى أن يعطيناها وقد أعطيناه ثمناً، فقال له موسى: أعطهم بقرتك، فقال: يا رسول الله! أنا أحق بمالي، فقال: صدقت، وقال للقوم: أرضوا صاحبكم، فأعطوه وزنها ذهبا فأبى، فأضعفوه له حتى أعطوه وزنها عشر مرات ذهباً، فباعهم إياها وأخذ ثمنها فذبحوها، قال: اضربوه ببعضها، فضربوه بالبضعة التي بين الكتفين فعاش، فسألوه: من قتلك؟ فقال لهم: ابن أخي، قال: أقتله فآخذ ماله وأنكح ابنته. فأخذوا الغلام فقتلوه.
وقال سنيد : حدثنا حجاج -هو ابن محمد - عن ابن جريج ، عن مجاهد وحجاج ، عن أبي معشر ، عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس -دخل حديث بعضهم في حديث بعض- قالوا: إن سبطاً من بني إسرائيل لما رأوا كثرة شرور الناس، بنوا مدينة فاعتزلوا شرور الناس، فكانوا إذا أمسوا لم يتركوا أحداً منهم خارجاً إلا أدخلوه، وإذا أصبحوا قام رئيسهم فنظر وأشرف، فإذا لم ير شيئاً فتح المدينة، فكانوا مع الناس حتى يمسوا، قال: وكان رجل من بني إسرائيل له مال كثير، ولم يكن له وارث غير أخيه؛ فطال عليه حياته، فقتله ليرثه، ثم حمله فوضعه على باب المدينة، ثم كمن في مكان هو وأصحابه ].
قوله: (كمن) يعني: اختفى.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ قال: فأشرف رئيس المدينة فنظر، فلم ير شيئاً ففتح الباب، فلما رأى القتيل رد الباب، فناداه أخو المقتول وأصحابه: هيهات قتلتموه ثم تردون الباب، وكان موسى عليه الصلاة والسلام لما رأى القتل كثيراً في بني إسرائيل، كان إذا رأى القتيل بين ظهراني القوم أخذهم، فكاد يكون بين أخي المقتول وبين أهل المدينة قتال، حتى لبس الفريقان السلاح، ثم كف بعضهم عن بعض، فأتوا موسى عليه الصلاة والسلام فذكروا له شأنهم، قالوا: يا موسى ! إن هؤلاء قتلوا قتيلاً ثم ردوا الباب، قال أهل المدينة: يا رسول الله! قد عرفت اعتزالنا الشرور، وبنينا مدينة كما رأيت نعتزل شرور الناس، والله ما قتلناه ولا علمنا قاتلاً، فأوحى الله تعالى إليه أن يذبحوا بقرة، فقال لهم موسى : إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67].
وهذه السياقات عن عبيدة وأبي العالية والسدي وغيرهم، فيها اختلاف ما، والظاهر أنها مأخوذة من كتب بني إسرائيل، وهي مما يجوز نقلها، ولكن لا تصدق ولا تكذب، فلهذا لا يعتمد عليها إلا ما وافق الحق عندنا، والله أعلم ].
هذه الروايات كما ذكر المؤلف رحمه الله كلها من أخبار بني إسرائيل، وأخبار بني إسرائيل كما ذكر المؤلف رحمه الله في المقدمة على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ما جاء شرعنا موافقاً له، وهذا حق مقبول.
الثاني: ما جاء شرعنا بنفيه وإبطاله، وهذا مردود.
الثالث: ما سكت عنه شرعنا، فلم يأت بموافقته ولا بمنافاته، فهذا هو الذي يحدث عن بني إسرائيل، ويحتمل الصدق والكذب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم) فهذه كلها من أخبار بني إسرائيل.
والآيات دلت على أن قتيلاً وقع في بني إسرائيل، فحصل اختلاف على من قتله، وأنهم جاءوا إلى موسى عليه السلام فسألوه، وأن الله أمرهم أن يذبحوا بقرة فتعنتوا وسألوا هذه الأوصاف، ثم أخذوها وذبحوها، وأخذوا بضعاً منها، أي: قطعة، فضربوه بها، فأحياه الله، فأخبرهم بمن قتله، ثم عاد ميتاً.
وأما كونهم أبناء إخوته، أو كونه أخوه أو ابن أخيه، أو كونه حصل كذا، أو كونه قتله ثم احتمله، وصار في باب المدينة، إلى آخر ما ذكر، فكل هذا من أخبار بني إسرائيل، فلا تصدق ولا تكذب، والمؤلف رحمه الله قد طال في هذا، ولو اقتصر على بعضها لكن أحسن.
قال المصنف رحمه الله: [ أخبر تعالى عن تعنت بني إسرائيل وكثرة سؤالهم لرسولهم، ولهذا لما ضيقوا على أنفسهم ضيق الله عليهم، ولو أنهم ذبحوا أي بقرة كانت لوقعت الموقع عنهم، كما قال ابن عباس وعبيدة وغير واحد.
ولكنهم شددوا فشدد عليهم فقالوا: [قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ [البقرة:68] أي: ما هذه البقرة وأي شيء صفتها؟
قال ابن جرير :حدثنا أبو كريب ، حدثنا هشام بن علي ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لو أخذوا أدنى بقرة لاكتفوا بها، ولكنهم شددوا فشدد عليهم -إسناد صحيح- وقد رواه غير واحد عن ابن عباس رضي الله عنهما، وكذا قال عبيدة والسدي ومجاهد وعكرمة وأبو العالية وغير واحد، وقال ابن جريج : قال لي عطاء : لو أخذوا أدنى بقرة لكفتهم، قال ابن جريج : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما أمروا بأدنى بقرة ولكنهم لما شددوا شدد الله عليهم، وأيم الله لو أنهم لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد).
قال: إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ [البقرة:68] أي: لا كبيرة هرمة، ولا صغيرة لم يلحقها الفحل، كما قاله أبو العالية والسدي ومجاهد وعكرمة وعطية العوفي وعطاء الخراساني ووهب بن منبه والضحاك والحسن وقتادة ، وقاله ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً، وقال الضحاك عن ابن عباس : عوان بين ذلك يقول: نصف بين الكبير والصغيرة، وهي أقوى ما يكون من الدواب والبقر، وأحسن ما تكون، وروي عن عكرمة ومجاهد وأبي العالية والربيع بن أنس وعطاء الخراساني والضحاك نحو ذلك.
وقال السدي : العوان: النصف التي بين ذلك التي قد ولدت وولد ولدها، وقال هشيم ، عن جويبر ، عن كثير بن زياد ، عن الحسن في البقرة: كانت بقرة وحشية ].
وهذا باطل، وليس بشيء.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقال ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس رضي الله عنهما: من لبس نعلاً صفراء لم يزل في سرور ما دام لابسها، وذلك قوله تعالى: تَسُرُّ النَّاظِرِينَ [البقرة:69]، وكذا قال مجاهد ووهب بن منبه : كانت صفراء. وعن ابن عمر : كانت صفراء الظلف. وعن سعيد بن جبير : كانت صفراء القرن والظلف.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي قال: حدثنا نصر بن علي ، حدثنا نوح بن قيس ، أنبأنا أبو رجاء ، عن الحسن في قوله تعالى: صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا [البقرة:69] قال: سوداء شديدة السواد، وهذا غريب، والصحيح الأول، ولهذا أكد صفرتها بأنه فَاقِعٌ لَوْنُهَا [البقرة:69].
وقال عطية العوفي : فَاقِعٌ لَوْنُهَا [البقرة:69] تكاد تسود من صفرتها، وقال سعيد بن جبير : فَاقِعٌ لَوْنُهَا [البقرة:69] قال: صافية اللون.
وروي عن أبي العالية والربيع بن أنس والسدي والحسن وقتادة نحوه.
وقال شريك عن معمر عن ابن عمر فَاقِعٌ لَوْنُهَا [البقرة:69] قال: صاف.
وقال العوفي في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهما: فَاقِعٌ لَوْنُهَا [البقرة:69] شديدة الصفرة تكاد من صفرتها تبيض، وقال السدي : تَسُرُّ النَّاظِرِينَ [البقرة:69] أي: تعجب الناظرين، وكذا قال أبو العالية وقتادة والربيع بن أنس، وقال وهب بن منبه : إذا نظرت إلى جلدها تخيلت أن شعاع الشمس يخرج من جلدها.
وفي التوراة أنها كانت حمراء، فلعل هذا خطأ في التعريب، أو كما قال الأول: إنها كانت شديدة الصفرة تضرب إلى حمرة وسواد، والله أعلم ].
الظاهر من الآية أنها صفراء شديدة الصفرة، وأن الصفرة تسر، لكن كلام ابن جريج في تفسير الآية فيه نظر، ولا شك أن الصفرة تفرح.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا [البقرة:70] أي: لكثرتها، فميز لنا هذه البقرة وصفها وحلها لنا، وإنا إن شاء الله إذا بينتها لنا لمهتدون إليها.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن يحيى الأودي الصوفي ، حدثنا أبو سعيد أحمد بن داود الحداد ، حدثنا سرور بن المغيرة الواسطي بن أخي منصور بن زاذان ، عن عباد بن منصور ، عن الحسن ، عن أبي رافع ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لولا أن بني إسرائيل قالوا: وإنا إن شاء الله لمهتدون لما أعطوا، ولكن استثنوا).
ورواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره من وجه آخر، عن سرور بن المغيرة ، عن زاذان ، عن عباد بن منصور ، عن الحسن ، عن أبي رافع ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لولا أن بني إسرائيل قالوا: وإنا إن شاء الله لمهتدون ما أعطوا أبداً، ولو أنهم اعترضوا بقرة من البقر فذبحوها لأجزأت عنهم، ولكن شددوا فشدد الله عليهم) وهذا حديث غريب من هذا الوجه، وأحسن أحواله أن يكون من كلام أبي هريرة كما تقدم مثله على السدي والله أعلم ].
وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة مُسَلَّمَةٌ [البقرة:71] يقول: لا عيب فيها، وكذا قال أبو العالية والربيع، وقال مجاهد : مسلمة من الشية، وقال عطاء الخراساني : مسلمة القوائم، والخلق لا شية فيها.
قال مجاهد : لا بياض ولا سواد، وقال أبو العالية والربيع والحسن وقتادة : ليس فيها بياض، وقال عطاء الخراساني : لا شِيَةَ فِيهَا [البقرة:71] قال: لونها واحد بهيم.
وروي عن عطية العوفي ووهب بن منبه وإسماعيل بن أبي خالد نحو ذلك.
وقال السدي : لا شية فيها من بياض ولا سواد ولا حمرة، وكل هذه الأقوال متقاربة في المعنى، وقد زعم بعضهم أن المعنى في ذلك قوله تعالى: إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ [البقرة:71]ليست بمذللة بالعمل، ثم استأنف فقال: تُثِيرُ الأَرْضَ [البقرة:71] أي: يعمل عليها بالحراثة؛ لكنها لا تسقي الحرث، وهذا ضعيف؛ لأنه فسر الذلول التي لم تذلل بالعمل؛ بأنها لا تثير الأرض ولا تسقي الحرث، كذا قرره القرطبي وغيره ]
الصواب أن معنى قوله: لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ [البقرة:71] أي: ليست مذللة بالعمل، وقوله: تُثِيرُ الأَرْضَ [البقرة:71] تفسير لقوله: ذَلُولٌ [البقرة:71]، والذلول: هي التي تثير الأرض؛ ولكن ليست تعمل عاملة، وليست سامية، لأن البقر تستعمل في الحرث، وتستعمل في استخراج الماء، فليست سامية يستخرج على ظهرها الماء، وليست مذللة للعمل، وإنما مكرمة، لا شية فيها، أي: ليس فيها لون آخر.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ [البقرة:71] قال قتادة : الآن بينت لنا، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : وقيل ذلك والله قد جاءهم الحق فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ [البقرة:71] ]
يعني: جاءهم الحق قبل ذلك، وجاءهم الحق فيما سبق، وجاءهم الحق فيما طلبوا.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ قال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنما: كادوا ألا يفعلوا، ولم يكن ذلك الذي أرادوا؛ لأنهم أرادوا أن لا يذبحوها، يعني أنهم مع هذا البيان وهذه الأسئلة والأجوبة والإيضاح، ما ذبحوها إلا بعد الجهد، وفي هذا ذم لهم، وذلك أنه لم يكن غرضهم إلا التعنت؛ فلهذا ما كادوا يذبحونها ]
قوله تعالى: فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ [البقرة:71] أي: ما كادوا يمتثلون.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقال محمد بن كعب ومحمد بن قيس : فذبحوها وما كادوا يفعلون لكثرة ثمنها، وفي هذا نظر؛ لأن كثرة الثمن لم يثبت إلا من نقل بني إسرائيل كما تقدم من حكاية أبي العالية والسدي، ورواه العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقال عبيدة ومجاهد ووهب بن منبه وأبو العالية وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: إنهم اشتروها بمال كثير، وفيه اختلاف، ثم قد قيل في ثمنها غير ذلك.
وقال عبد الرزاق : أنبأنا ابن عيينة ، أخبرني محمد بن سوقة ، عن عكرمة قال: ما كان ثمنها إلا ثلاثة دنانير، وهذا إسناد جيد عن عكرمة ، والظاهر أنه نقله عن أهل الكتاب أيضاً.
وقال ابن جرير : وقال آخرون: لم يكادوا أن يفعلوا ذلك خوف الفضيحة، إن اطلع الله على قاتل القتيل الذي اختصموا فيه، ولم يسنده عن أحد، ثم اختار أن الصواب في ذلك أنهم لم يكادوا يفعلوا ذلك؛ لغلاء ثمنها وللفضيحة، وفي هذا نظر، بل الصواب والله أعلم ما تقدم من رواية الضحاك عن ابن عباس على ما وجهناه، وبالله التوفيق ].
يعني: في تعنتاتهم، ولا مانع أن تكون للأمور كلها؛ لغلاء الثمن، وللتعنتات، لكن الأصل أنه لتعنتهم؛ ولأجل ضعف إيمانهم، ولأجل ما جبلوا عليه من الاعتراض على أنبيائهم ما كادوا يفعلون.
وقال أبو حنيفة والثوري والكوفيون: لا يصح السلم في الحيوان؛ لأنه لا تنضبط أحواله، وحكي مثله عن ابن مسعود وحذيفة بن اليمان وعبد الرحمن بن سمرة وغيرهم].
الصواب في هذه المسألة أنه يجوز السلم في الحيوان، والسلم هو: تقديم الثمن وتأجيل المثمن، أو تعجيل الثمن وتأخير المثمن.
مثال ذلك: تسلم إنساناً خمسين ألفاً أو مائة ألف حاضر، وذلك في سيارة موصوفة بالذمة بعد سنة، صفتها كذا وكذا، وموديلها كذا وكذا، فتوصف كاملاً، كذلك الحيوان، تسلم كذا في حيوان، إبل أو بقر أو غنم، صفته كذا وكذا.
وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وجدهم يسلمون في الثمار السنة والسنتين، فقال عليه الصلاة والسلام: (من أسلم في شيء، فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم) فإذا كان المسلم فيه ثمر أو تمر أو حبوب فلا بد من تعريفه وتقييده بالأوصاف، كيل معلوم ووزن معلوم وأجل معلوم، والتمر معروف، وثمنه كذا وكذا.
كذلك إذا أسلم في سيارة، أو أسلم في حيوان فلا بأس، فالثمن يعجل والمثمن يؤجل ويقيد بالأوصاف.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر