الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فما زلنا في تفسير قوله تعالى: فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس: 8]، والفجور قسمان: فجور في الظاهر، وفجور في الباطن، فالفجور في الظاهر يشمل الأقسام الثلاثة التي هي أقسام الذنوب:
وهي: أولاً: كبائر الإثم، ثم الفواحش ثم اللمم، ولذلك قال الله تعالى في تقسيم هذه الذنوب: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ [النجم:32].
فأكبر كبائر الإثم هي الشرك بالله، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وشهاد الزور، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ألا أخبركم بأكبر الكبائر ثلاثاً ) ومنها بقية الموبقات السبع، فهذه كلها من كبائر الإثم، وما دونها الفواحش العظيمة التي لا تصل إلى درجة هذه الكبائر، وإن كانت تجتمع معها باسم كبائر المعاصي، فكلها يشملها لقب كبائر، ولكنها متفاوتة في الدرجة، فما دونها اللمم وهو الصغائر، وهذه في الظاهر، وأما الفجور الذي في الباطن فهو أن يكون الإنسان إذا عمل صالحاً لم تسره حسنته، وإذا عمل سيئة لم تسوؤه سيئته، فهذا هو فجور الباطن، فإذا عمل صالحاً لم يحسن عنده ولم يسره، وإذا عمل سيئاً لم يسوؤه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن المؤمن: ( من سرته حسنته وساءته سيئته فذلك المؤمن )، وهو الذي إذا وفق للخير سره ذلك وحمد الله عليه، وإذا ألهم شراً -نسأل الله السلامة والعافية- وفجوراً ندم عليه وحزن وتاب إلى الله عز وجل فهذا المؤمن.
وأما الذي لا تسره حسنته ولا تسوؤه سيئته؛ فالحسنات يفعلها تقليداً ورياء الناس، والسيئات يفعلها إسرافاً وإقبالاً على الذنب، فهذا لا يرجى له خيراً -نسأل الله السلامة والعافية- وهو صاحب فجور باطني، والفجور الباطني أعظم من الفجور الظاهري؛ لأن الفجور الظاهري قد يكون معه تقوى في الباطن، فيدعو ذلك إلى التوبة كما حصل ذلك للرجل الذي قال: خشيتك يا رب.
وأما الفجور الباطني فلو كان معه الصلاح الظاهري لا يقبل قال الله تعالى: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27].
فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:8]، والتقوى أيضاً هي كذلك، فلفظ التقوى مؤنث؛ لأنه كما ذكرنا أن أصل التقوى من (وقى) وهو فعل من الوقاية، وهو يطلق على هذا اللفظ فيطلق على الاتقاء اتقاء الله، وذلك يشمل اجتناب النواهي الظاهرة، واجتناب النواهي الباطنة، وامتثال الأوامر الظاهرة، وامتثال الأوامر الباطنة، فهذه أربعة ظواهر هي التي ذكرها ابن عاشر رحمه الله في قوله:
وحاصل التقوى اجتناب وامتثال في ظاهر وباطن بذا تنال
فكانت الأقسام حقاً أربعة.
فهذه الأقسام الأربعة هي أقسام التقوى، فالاجتناب في الظاهر: أن لا يقع الإنسان في هذه القاذورات، والفواحش وأن يجتنبها ما استطاع في الظاهر، والاجتناب في الباطن أن يكرهها إذا حصلت منه، أو أن يكره حصولها منه.
والامتثال في الظاهر أن يمتثل أوامر الله الموجهة إليه ما استطاع، والامتثال في الباطن أن يحب أن يمتثل ما عجز عنه منها أو لم يصل إليه، وهذا هو الامتثال الباطن، وبعضهم يشرح الاجتناب بالظاهر باجتناب الجوارح الظاهرة، والاجتناب في الباطن باجتناب القلب للمحرمات القلبية كالرياء والتسميع، والعجب .. وغيرها.
وكذلك الامتثال في الظاهر لعمل البدن، والامتثال في الباطن لعمل القلب أيضاً، كالامتثال للاتصاف بصفات المؤمنين.
فهذه هي أقسام التقوى، وهذا الفعل وهو (اتقى) أصله واوي وهو من الوقاية، ولكن تبدل هذه الواو تخفيفاً فيقال: اتقى، أصله أوتقى، فتدغم التاء في التاء، فيقال: اتقى، وقد تحذف التاء الأولى مثل قول ابن أبي ربيعة :
يقول لي المفتي وهن عشية بمكة يثرن المقوفة السحلى
اتق الله لا -أو المفوفة السحلى-
اتق الله لا تضر إليه الديافة وما خلت إليه في الحج ملتمساً وصلا
(اتق الله) معناه: اتق الله، فلما حذف التاء الأولى حذف معها همزة الوصل؛ لأنها التي يتوصل بها إلى الساكن، وقد سقط الساكن ولم يبق لهمزة الوصل معنى، ولم يبق لها أثر فسقطت لاجتماع الساكن، وقد أضاف الله سبحانه وتعالى الفجور والتقوى إلى النفس: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:7-8].
ولم يقل: ألهمها الفجور والتقوى؛ لأن ذلك يتفاوت، ففجور كل نفس بحسبها، وتقوى كل نفس بحسبها، فلا يمكن أن تلهم نفس واحدة التقوى كله، ولا الفجور كله، بل تلهم ما تسدد هي له من الفجور إن كانت فاجرة، وما تسدد له من التقوى إن كانت تقية، وذلك بحسبها، ولهذا فإن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبواب الجنة الثمانية قال: ( يا رسول الله! ما على من دعي من جميعها من بأس؟ ) وفي رواية: ( هل يمكن أن يدعى من جميع أبوابها الثمانية؟ قال: نعم، وإني لأرجو أن تكون منهم )، فهو لم يرض بباب واحد من أبواب الجنة ولا ببابين، ولا بثلاثة أبواب، وإنما أراد أن يدعى وأن يكون اسمه في كل لائحة باب من أبواب الجنة الثمانية، وهذا هو من علو الهمة، فمن ألهم تقواه علت همته وسمت.
فلذلك لا يمكن أن يركن إلى الراحة والهدوء، فالوقت الذي يركن فيه الناس إلى الراحة والهدوء والطمأنينة، أو إلى ملذات الدنيا وشهواتها فيكون حاله كما قال تعالى عنهم: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ [السجدة:16]، في ذلك الوقت، وإذا ركن الناس إلى الذكر في الملأ الأسفل وعند الناس ركن هؤلاء إلى الذكر في الملأ الأعلى عند الله عز وجل، وإذا أنس الناس بزخارف هذه الدنيا الفانية لم يأنس أصحاب الهمم العالية إلا بخدمة الله سبحانه وتعالى والاتصال به، ولذلك فهم في شغل دائماً، مشغولون دائماً لا يجدون فراغاً فأوقاتهم كلها مليئة، ولذلك قال علال بن عبد الله الفاسي رحمه الله:
أبعد بلوغي خمس عشرة ألعب وألهو بلـذات الحياة وأطــرب
ولي نظر عالٍ ونفس أبية مقاماً على هـام المجرة تطلــب
وعندي آمال أريد بلوغها تضيع إذا لاعبت دهري وتذهـب
ولي أمة منكودة الحظ لم تجد سبيلاً إلى العيش الـذي تتطلــب
على أمرها أنفقت دهري تحسراً فما طاب لي طعم ولا لذ مشرب
ولا راق لي نوم وإن نمت ساعة فإني على جمر الغضا أتقلـــب
وهؤلاء الذين يفكرون هذا التفكير الكبير تكون نفوسهم أكبر من أجسامهم، فلذلك تتعلق بمعالي الأمور، كما قال أبو الطيب المتنبي :
على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتكبر في عين الصغير صغارهـا وتصغر في عين العظيم العظائم
فالعظيم تصغر في عينيه العظائم فيستهين بها ويريد أن يتعداها، ولذلك قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: إن لي نفساً تواقة، تاقت إلى الإمارة فنالتها، ثم تاقت إلى الخلافة فنالتها، ثم تاقت إلى الجنة.
ولذلك ربى الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه على هذه الهمم العالية، فهذا النابغة الجعدي -رضي الله عنه- (
بلغنا السما جوداً ومجداً وسؤدداً وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
فقال: إلى أين يا أبا ليلى قال: إلى الجنة قال: إلى الجنة إن شاء الله )، وهذا الإلهام العجيب للفجور والتقوى يدلك على أن كثيراً من الناس يقيض لهم الخير، ولو كانوا عاجزين عنه، ولو كانت أبدانهم ضعيفة يقيض لهم من قيام الليل، وصيام النفل والجهاد في سبيل الله، والدعوة إليه الشيء الكثير، وإذا كانت أموالهم قاصرة يقيض لهم من أوجه الإنفاق في وجوه البر الشيء الكثير جداً.
وفي المقابل أيضاً من ألهم فجوره -نسأل الله السلامة والعافية- ولو كان بدنه ضعيفاً يقوى على المعصية، ولو كان ماله قليلاً تيسر له المعاصي فيجد من ينفق عليهم في تلك المعاصي، فذلك نسب الفجور والتقوى إلى النفس نفسها: فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس: 8].
وقد ذكر الله سبحانه المقسم له بعد ذكر أحد عشرة قسماً وهو قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9]، وكلمة (قد): هي حرف تحقيق، وهذا زيادة في التحقيق بعد ذكر القسم، والفعل المؤكد هو أفلح، والفلاح صلاح الحال في الدنيا والآخرة، من زكاها فاعل أفلح، والصلة من هي: زكاها، أي: زكى نفسه.
وتزكية النفس تطلق على أمرين:
الأول: تطهريها والثاني: تنميتها، فالزكاة معناها الطهارة، والزكاء معناه النماء والزيادة، فزكى الشيء يزكو إذا طهر، وزكى كذلك إذا نمى وكثر، والنفس قابلة للأمرين:
فالأمر الأول هو: تطهيرها من الأدران، وذلك يشمل أمرين: يشمل تطهيرها من الذنوب بفطمها عنها، وتوبتها مما مضى، وتخلصها وخروجها مما هي مستغرقة فيه من الذنوب.
والأمر الثاني: هو تطهيرها من الصفات الذميمة التي هي منشأ الذنوب، فإن الذنوب في الأصل إنما تنشأ عن الأخلاق والصفات، أو عن العقائد التي يقتنع بها الإنسان، فما كان منها ناشئاً عن قناعة وعقيدة فهو الاتباع، وما كان منها ناشئاً عن صفة في الإنسان وخلق فيه فهي المعاصي، وقد بين الله سبحانه وتعالى صفات المؤمنين وصفات الكافرين وصفات المنافقين، وهذه الصفات كما ذكرنا من قبل قد اختلف أهل العلم فيما هل هي أصلية في الإنسان أم هي عارضة فيه؟ وبالأخص منها ما كان من أمراض القلوب والنفوس، فقد ذهب الغزالي إلى أنها غرائز أصلية في الإنسان، واستدل على ذلك بشق صدر النبي صلى الله عليه وسلم وانتزاع المضغة السوداء من قلبه، وقال: لو كان أحد ينجو منها لنجى منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدل هذا على وجودها الأصلي في البشر.
وذهب جمهور أهل العلم على أنها عوارض تعرض للإنسان، ولذلك قل من رزق قلب إنسان منها، واستدل هؤلاء بقول الله تعالى: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [الروم:30]. وبقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( كل مولود يولد على الفطرة حتى يكونا أبواه هما الذان يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه )، وبقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما من مولود إلا ويولد كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، فهل ترى فيها من جدعاء؟ ). وقد ذكرت الاختيار الذي اختاره وهو الجمع بين القولين: أن الأصل القابلية، وأن الأصل في الإنسان أن يكون قابلاً لهذه الأمراض، ولكن الأصل السلامة منها، وعدم وجودها، والذي انتزع من النبي صلى الله عليه وسلم ليس الأمراض إنما الذي انتزع منه هو قابليته لتلك الأمراض، فلم يعد قابلاً لها أصلاً، ولكن طبيعة البشر قبول هذه الأمراض.
وهذه الأمراض متفاوتة وإنما تتم التزكية منها بترتيب الأولويات، فيبدأ الإنسان أولاً بتطهير نفسه من الشرك، وهو أنواع منوعة، فأعظمها الشرك الأكبر المخرج من الملة وهو أربعة أقسام:
أولا: الشرك بالعبادة، بأن يقدم الإنسان شيئاً من عبادته إلى غير الله، فهذا من الشرك الأكبر المخرج من الملة، كمن يسجد لصنم أو يتقرب إليه بالذبح أو بالنذر أو بغير ذلك من العبادات والقربات، من ينذر لمخلوق أو يذبح له، يذبح لقبر أو ينذر لمخلوق، فهذا من الشرك الأكبر الذي هو الشرك بالعبادة.
بعده القسم الثاني من الشرك الأكبر وهو الشرك بالدعوة، وهو الاستغاثة بالمخلوق ودعاؤه من دون الله، فذلك شرك أكبر وهو أيضاً مخرج من الملة، وقد قال الله تعالى: ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:13-14].
وقال تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً [الإسراء:57].
وقال تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر:36].
والنوع الثالث من أنواع الشرك الأكبر المخرج من الملة: الشرك بالتشريع: وهو التحليل والتحريم من دون الله عز وجل، وقد بين الله سبحانه وتعالى خطر هذا النوع فقال: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21].
وكذلك في آية يونس : قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ أَاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [يونس:59].
وكذلك ما نعاه الله على المشركين في سورة الأنعام من هذا النوع، وقد رد عليهم في ذلك رداً بليغاً بقوله: ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنْ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنْ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ أَالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمْ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الأنعام:143].
وهذا التقسيم راد لكل إباحة وتحريم من دون الله عز وجل، فهذا الذي يبيح ويحرم من دون الله عز وجل إنما هو مفترٍ قطعاً؛ لأن المخلوقات قسمها الله إلى هذا التقسيم، وقال: (( قُلْ أَالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمْ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ ))، ولا يمكن أن يوجد قسم رابع، نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الأنعام:143].
النوع الرابع من أنواع الشرك الأكبر المخرج من الملة: الشرك في المحبة، أي: المحبة الإلهية، بأن يصف الإنسان مخلوقاً بصفات الخالق أو بصفات الإله، أو يثبت له ما لا يثبت إلا للإله، وقد قال الله تعالى: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ [البقرة:165].
وقوله: (والذين آمنوا)، دليل على أن أولئك ليسوا من الذين آمنوا؛ لأن هذا تقسيم، والتقسيم يقتضي أن الذين يحبون أنداداً من دون الله كحب الله ليسوا من الذين آمنوا، فهم قسيم لهم.
فإذاً هذه الأقسام الأربعة هي أنواع الشرك الأكبر وهي الشرك في العبادة، والشرك في الدعوة، والشرك في التشريع، والشرك في الحاكمية، والشرك في المحبة، ودونها الشرك الأصغر.
والشرك الأصغر أنواع منوعة كذلك، فمنها:
الشرك بالرجاء: وهو أن يرجو الإنسان غير الله، وأن يعلق قلبه به، ومن هذا تعليق التمائم والتولة، والرقى غير الشرعية، والتولة: ما يجعل من العقاقير التي يفصل بها بين المرء وأهله، يؤخذ بها الرجل على المرأة، وهو ضر قريب من السحر ومن أنواعه، فهذا نوع من أنواع الشرك الأصغر. ومنه كذلك:
الشرك في التعظيم: وهو كأن يعظم الإنسان مخلوقاً تعظيماً كبيراً لا يصل به إلى حد الألوهية، لكنه يعطيه ما ليس للمخلوق، مثل القسم بالمخلوق، فإن هذا من الشرك الأصغر كذلك.
ومثل هذا الرياء وهو: أن يعمل عملاً لا يريد به وجه الله فحسب، بل يريد به أن يذكر أو أن يعرف بين الناس أو أن يشكر بينهم، وهو عمل مما يتقرب به إلى الله، من الأعمال التي هي عبادة لله، فهذا من الشرك الأصغر؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه إنه أخفى في الناس من دبيب النمل، وقال: ( إياكم والشرك الأصغر، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟! قال: الرياء ).
وقد ذكره الله سبحانه وتعالى في العطايا، وبعض الناس يكون جواداً يعطي، لكن لا يريد بذلك وجه الله، وإنما يريد به أن يقال: جواد، وأن يذكر، وعند العطاء لا يتذكر أنه يريد وجه الله، فهذا النوع هو الذي حذر الله منه في سورة النساء.
وكذلك وصف الله المنافقين جميعاً بالرياء في سورة النساء أيضاً فقال: يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:142]. فالأول يقول فيه: وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ [النساء:38]. والثاني يقول فيه: يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:142].
وليس من هذا الرياء أن يتقرب الإنسان إلى الله قربة يريد بها أمراً دنيوياً عند الله، لا يريده من الناس لكن يريده من الله، كمن يتصدق يريد بذلك قربة من الله، وفي الوقت نفسه يريد أيضاً أن يطال في عمره أو أن ينسأ له في آثره، أو أن يبرأ له مريضاً مثلاً، فهذا ليس من الرياء؛ لأنه تقرب إلى الله وليس إلى الناس، فإنه لم يقصد الناس بما فعل، ولكنه قصد بذلك العمل وجه الله، وقصد خيراً يريده من الله ولا يريده من الناس، فالأكمل أن يقصد الإنسان وجه الله فقط، ويكل إليه الأمر، فإذا فعل ذلك فليس هذا من الرياء.
كذلك ليس من الرياء أن يفعل الفعل ليستن به، وأن يفعل الفعل مما يبتغى به وجه الله ويظهره للناس أو يذكره لهم من أجل أن يقتدوا به في ذلك؛ لأنه يريد بذلك زيادة أجره؛ لأن من دعا إلى هدى كان له أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أيها الناس! توبوا إلى الله واستغفروه، فإني أتوب في إلى الله واستغفره في اليوم أكثر من مائة مرة ).
فهو هنا أخبر بطاعة يفعلها لوجه الله، وأخبر بها الناس ليستن به وليقتدى به كذلك، فهذا النوع ليس من الرياء.
ومثل ذلك ما كان من التربية كمن تربيه على طاعة فتسأله عمن أنجز منه، كسؤالك لإنسان يدرس العلم ويتفرغ له: كم تعطي العلم من وقتك؟ فمثلاً كثير منا طلاب علم وإذا سموا بذلك فمعناه أن جمهور وقتهم ينبغي أن يصرف إلى العلم الذي يطلبونه، والوقت أربع وعشرون ساعة، فإذا كان الإنسان يريد أن يعرف هل هو طالب علم أو لا؟ فلينظر إلى هذه الأربع والعشرين ساعة، فإن كان في اثنتي عشرة ساعة مشغولاً بالعلم فهو فعلاً طالب علم؛ لأنه صرف نصف وقته لطلب العلم، وأما إذا كان لا يصرف من وقته في العلم إلا ساعة واحدة من أربع وعشرين ساعة، فلا يمكن أن يسمى أنه طالب علم؛ لأن مجمل وقته في غير ذلك.
فتقويم الناس على هذا الأساس ليس من الرياء، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: ( من أصبح منكم صائماً اليوم؟ من عاد منكم مريضاً اليوم؟ من اتبع منكم جنازة اليوم؟ من تصدق منكم اليوم بصدقة؟ كل ذلك يقول أبو بكر : أنا ).
وهذا يدل على أن تقويم الإنسان لمن يربيهم ليعرف ما قاموا به من أعمالهم وما أدوه لا يدخل في الرياء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يربي أصحابه على الرياء، ولا يمكن أن يعلمهم النفاق، و أبو بكر لم يكن ليكذب على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لعلمه أنه إن كذب عليه فسيأتيه الوحي لتكذيبه، وهو موقن بذلك.
ثم بعد هذا يعالج نفسه على الصفات الذميمة التي هي دون الشرك، وأعظمها البخل فهو أقبح الصفات بعد الشرك، وأقبحه البخل مع الله، بأن يكون الإنسان بخيلاً مع ربه؛ لأن هذا غاية في اللؤم أن تكون مؤمناً بأنه هو الذي خلقك وسواك وأنعم عليك وهداك ووفقك وسددك، ومع ذلك لا تقرضه قرضاً حسناً، ولا تتقرب إليه بالطاعات، فهذا من اللؤم مع الله سبحانه وتعالى.
ولهذا فالإنسان المؤمن الصادق إذا كانت تمضي عليه أربع وعشرون ساعة ولم يتنفل لله بأية نافلة يقتصر فقط على الفرائض، هذا يعتبر لئيماً بخيلاً مع الله سبحانه وتعالى؛ لأنه لم يقدم شيئاً، ولذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم حض على أقل ما يمكنه وهي اثنتا عشرة ركعة في اليوم والليلة من النوافل، لا يقصر عنها المسلم دائماً حتى لا يكون بخيلاً، وهذا البخل مع الله إذا أزاله الإنسان عن نفسه، بعده أيضاً يزيل البخل عن نفسه مع الدين، فبعد البخل مع الله في البخل مع الدين، الإنسان الذي لا يبذل شيئاً في سبيل هداية الناس، ولا في سبيل نصرة دينه، ولا يسعى لإعلاء كلمة الله، ولا ينفق في سبيل ذلك ولا يضحي فهذا بخيل مع دينه؛ لأن هذا الدين الذي ينتمي إليه لو قورن بأي انتماء ينتمي إليه الإنسان -سواء كان انتماءً حزبياً أو عشائرياً أو قبائلياً أو غير ذلك- فلاشك أن الإنسان سيبذل وينفق في ذلك.
ومن هنا فكل إنسان منا ينتمي إلى قبيلة يعرف أنه يدفع ما تدعو تلك القبيلة إلى دفعه من اللوازم المالية، ويشارك فيها، بل قلّ ما يمضي شهر إلا وقد شارك فيما يدفعه من المال، وقد لا يسأل عن سببه، وقد لا يسأل لماذا جمع هذا المال؟ لكنه يرى من ضرورة انتمائه القبلي أن يشارك فيه، ولاشك أن انتماءنا للدين أعظم من انتمائنا للعشائر والقبائل، فلذلك لابد أن يكون الإنسان مستعداً لأن يبذل في سبيل الدين مثلما يبذل في سبيل القبيلة أو في سبيل الحزب الذي ينتمي إليه، وإذا لم يفعل كان بذلك بخيلاً مع دينه، فلابد من علاج البخل مع الدين.
ثم بعده البخل مع النفس: والإنسان البخيل مع نفسه هو الذي يجد راحة في بدنه واتساعاً في وقته، وفراغاً وقوة، فلا يقدم لنفسه شيئاً ينجيه بين يدي الله، فيكون بذلك مغبوناً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما أخرجه البخاري في الصحيح من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما -: ( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ )، فصحة الإنسان إذا لم يستعملها فيما ينجيه، وفراغه إذا لم يستعمله فيما ينجيه فهو بخيل مع نفسه، فهي تسأله وهي محتاجة لما ينجيها وهو يبخل عنها، والله تعالى يقول: وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ [محمد:38].
ثم بعد هذا البخل مع الناس على درجاتهم ومراتبهم، فيبدأ الإنسان بوالديه، فهما أمن الناس عليه، وأولاهم بحسن صحابته، ثم أدناك أدناك. فالله سبحانه وتعالى أمر بإيتاء ذي القربى فقال: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى [النحل:90]، فإذا كان الإنسان لا يبذل فهو بخيل مع النفس، ثم بعد هذا الخلائق الآخرون، والمحتاجون منهم أولى من غيرهم، فحق الناس بالرحمة الضعفاء، والناس عيال الله وأحبهم إليه أنفعهم لعياله.
ومن هنا إذا وجد الإنسان في نفسه بخلاً، فيما يقدمه للناس، وأعظم ذلك ما كان في الواجبات كالزكاة الواجبة مثلاً، ودونها ما كان كالصدقات التي هي مندوبة، فما كانت في الواجبات كالزكاة والديون والحقوق المترتبة على الإنسان هذا أعظم البخل مع المخلوقين، ودونه ما كان كالصدقات مندوبة.
وهذا البخل إنما يزيله الإنسان عن نفسه بأن يعرف ضرره وخطره عليه، فيما يتعلق بالله سبحانه وتعالى فيعلم أن الله لا يضره بخله بالشيء وأنه غني عنه وعن أعماله، وأنه إنما يقدم الشيء لنفسه: ( يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم وأوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ).
وكذلك تذكره للفرص وأنه إذا لم يؤد ما طلب منه في هذه الفرصة فستضيع الفرصة وتفوت ويبقى هو من غير أن يجد فرصة لأداء ما يستطيع ما يحب أداؤه، ولهذا قال أهل العلم:
وإذا سئلت الخير فاعلم أنها نعمى تخص بها من الرحمان
إذا وجد الإنسان فرصة يقدم فيها شيئاً لنفسه فلينتهزها قبل أن يفوت الأوان؛ لأنه بالإمكان أن تأتيه حاجة فلا يجد ما يسدها به، كأن يأتيه محتاج فلا يجد ما يسد به حاجة المحتاج، أو يكون عنده ما يسد به حاجة ولا يجد محتاجاً، فكل هذا محتمل، لذلك فلا بد أن ينتهز الإنسان الفرصة.
وكذلك من علاج البخل: أن يتذكر الإنسان أن البخل صفة ذميمة تؤدي إلى البغضاء في الناس، فالبخيل يبغضه الناس حتى البخيل مثله يبغضه، وكذلك إذا تذكر الإنسان أن البخل إذا أزيل فذلك سبب للفلاح كما قال الله تعالى: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9].
ثم من أسباب إزالة البخل عن الإنسان: إدراكه لحقيقة هذه الدنيا الفانية، ومعرفته لحالها وحال أهلها، فإن الإنسان إذا أدرك أن هذه الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة، وأدرك قيمتها الحقيقية زهد فيها، وإذا زهد فيها أدى منه ذلك إلى إزالة البخل عن نفسه.
وكذلك مما يزيل البخل عن الإنسان: تذكره؛ لأن ما تحت يديه إنما هو من نعم الله سبحانه وتعالى، فما عنده من الوقت، والمال، والعقل، والعلم .. وغير ذلك كله من نعم الله سبحانه وتعالى، وليست ملكاً له هو وإنما هي أمانة عنده، فيلزمه أن يؤدي الأمانة قبل أن يفوت الأوان.
ثم بعد هذا إذا عالج الإنسان صفة البخل يعالج ما بعدها من الصفات، ومن أخطرها الكبر، فهو من أدواء النفوس العظيمة، وعلامته في الإنسان أن يسمع الحق فيستنكف عنه، فالذي يستنكف عن الحق فهذا يدل على أنه مستكبر، والذي إذا قيل له: أنت متصف بصفة كذا وهو يعلم أن هذا حق، فيستنكف عن ذلك ويستكبر وينكر، فهذا دليل على أنه متكبر.
ومن علامته كذلك: أن لا يقبل الإنسان نصحاً، فالإنسان الذي لا يقبل النصيحة مستكبر دائماً، ومن علامة الكبر كذلك في الإنسان: أن لا يشاور، وأن لا يزداد عقلاً من غيره، فالإنسان الذي لا يشاور أحداً فهذا دليل على أنه متكبر؛ لأنه يظن أنه هو المعصوم وهو الكامل.
وكذلك من علامته محاولة الإنسان دائماً إلتماس العذر لنفسه بكل أمر، فالإنسان الذي إذا لوحظت عليه أية ملحوظة أو انتقد بأي انتقاد فحاول التماس العذر لنفسه -كأن يقول: هذا بسبب كذا، وهذا إنما حصل بسبب كذا، وتعرفون هذا كثيراً في الناس- فهذا دليل على الكبر؛ لأن الإنسان المتكبر يوهم نفسه أنه معصوم، وأنه ليس مخطئاً، وأن ما حصل له فيه عذر، وكل ما حصل من النقص له فيه عذر، فهذا دليل على الكبر.
وهذا الكبر وصف ذميم وهو سباب هلاك إبليس، ولذلك فهو من أخطر أدواء القلوب والنفوس، يقول الشيخ سيدي محمد بن الشيخ سيديا رحمهما الله:
حتى إذا القهيل التاثت حديقته به وهمت بإزهار فإزهاي
طلقتها من وثاقي وثقت بها والعجب أصل لما في النفس من داء
هذا العجب الذي هو من الكبر أصل لما في النفس من داء.
ثم بعد ذلك يعالج الإنسان صفة الغضب فهي سبب لغمط الناس حقوقهم وسبب للكذب، وسبب للتصرفات الطائشة كالظلم والعدوان فكل ذلك سببه الغضب، وهو صفة ذميمة؛ ولهذا حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم، لما جاءه ذلك الرجل فقال: ( يا رسول الله! أوصني وردد مراراً والنبي صلى الله عليه وسلم يقول له: لا تغضب )، أخرجه البخاري في صحيحه، وكذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الغضب من الشيطان عندما رأى رجلاً منتفخ الأوداج محمر الوجه محمر العينين، قال: ( أما إني لأعلم كلمة إن قالها لذهب ما به، قيل: ما هي يا رسول الله؟! قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. فقيل للرجل: قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فقال: أبي جنون )، فدل هذا على أن الغضب من عمل الشيطان.
وهذا الغضب إذا أراد الإنسان أن يعلم هل هو متصف بهذه الصفة وهي صفة الغضب الذميمة؟ فلينظر إلى المواقف التي جرت له من قبل فغضب فيها، هل كان غضبه انتصاراً لنفسه أو كان انتصاراً لله؟ فالغضب الذي يعلم الإنسان أنه ما غضب فيه إلا انتصاراً لحرمات الله فهذا غضب حميد غير ذميم.
والغضب الذي يعلم الإنسان أنه ينتصر فيه لنفسه، وبالأخص إن كان ظالماً أو كاذباً فهذا ذميم جداً، وطبعاً فالغضب متفاوت الدرجة، فما كان منه على أساس ظلم وعدوان فهو شر متمحض، وما كان منه انتصاراً بحق فهو شر يخالطه حق، ولذلك أتى الله سبحانه وتعالى في سورة الشورى بموازنة عظيمة بين العفو والصفح، والانتقام أيضاً فقال الله تعالى: وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ [الشورى:37].
فهذا هو الوقت العالي الأسمى إذا ما غضبوا هم يغفرون: وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ [الشورى:38-39].
وهذا في المقابل: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى:40]. ثم رجع إلى الطرف الأسمى فقال: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [الشورى:40].
ثم رجع إلى الطرف المقابل فقال: وَلَمَنْ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [الشورى:41-42].
ثم قال: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [الشورى:43]. وهذا آخر ما ختم به في هذا المجال فهي موازنة بين الأمرين.
ثم إزالة هذا الداء العضال الذي هو: الغضب، والداء الذي قبله وهو الكبر، إنما يكون ذلك بإدراك الإنسان لحقيقة نفسه، إذا أراد الإنسان أن يزيل عن نفسه صفة الكبر والعجب فلينظر إلى خلقه مما خلق؟ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ * إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ [الطارق:6-8]، فيتذكر الإنسان خلقه، ويتذكر كذلك حاجته فهو محتاج إلى المخلوقين ومحتاج إلى الغذاء، ومحتاج إلى الماء، ومحتاج إلى الهواء، ومحتاج إلى الأنس بالآخرين، فلو كان في برج عال من العاج مثلاً، ولا يحتاج إلى الناس في أي شيء، ولكنه لم يرَ بشراً سوياً أليس سيصاب بوحشة؟! إذاً فهذا دليل على أنه محتاج إلى الناس في كل أوقاته، وبهذا يعرف أنه يحتاج إلى الآخرين وأن مستواه كمستوياتهم.
ومن علاجه أن يتذكر أن ما عنده كله من نعمة الله عليه، وأنه بالإمكان أن تنزع منه تلك النعمة، وأن تصرف عنه إلى غيره، قد قال الله تعالى: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ [النحل:53]. وقال تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [النحل:18].
فإذا تذكر الإنسان أن كل عنده من النعم هو من فضل الله ورحمته، وأنه خصه به تفضيلاً له وتشريفاً هانت عليه نفسه؛ لأنه يعلم أن ما عنده من النعم ليس من قبيل نفسه، فلا هو بكسبه ولا باجتهاده، فكم من إنسان بذل قصار جهده، وأنفق كل ساعات عمره ولم يصل إلى هذا المستوى المطلوب، وكم من إنسان ناله بلطف الله وتوفيقه من غير بذل أصلاً، ولذلك يقول الحكيم:
باتت تعيرني الإفقار والعدما لما رأت لأخيها المال والنعما
تباً لرأيك ما الأرزاق عن جلد ولا من الكسب بل مقسومة قسما
وكذلك يقول ابن زريق الضبابي -رحمه الله- في قصيدته يقول:
وما مكابدة الإنسان واصلة رزقاً ولا دعة الإنسان تقطعه
قد قسم الله رزق الناس بينهم ما يخلق الله من خلق يضيعه
وكذلك من علاج الكبر والعجب: أن يتذكر الإنسان أنه في مقابل الآخرين قد يكون هو أدنى مستوى عند الله وأخفض، فمستويات الدنيا لا تمثل شيئاً فالدنيا مدتها محصورة يسيرة، ولو أن إنسان فيها كان في أسفل السافلين عند الناس وبمنظارهم، ولكن كان في أعلى عليين يوم القيامة عند الله، فلا يضره ما كان فيه من الدناءة في هذه الحياة الدنيا، فالعبرة إذاً بموازين الآخرة لا بموازين الدنيا؛ ولهذا قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ [الحجرات:11]، فهذا علة النهي، فالنهي هو قوله: لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ [الحجرات:11]، وعلته قوله تعالى: عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ [الحجرات:11] ومعناه: عسى أن يكون المسخور منهم خير من الساخرين عند الله: وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ [الحجرات:11]، ويمكن أن يكون المسخور منهن خير من الساخرات عند الله عز وجل.
وكذلك من علاج الغضب: أن يتذكر الإنسان أنه ما يصاب إلا بشيء من جنايته، وكل ما يصيبه إنما هو بسبب ذنبه أو بتمحيص له، أو بإعلاء لقدره قال صلى الله عليه وسلم: ( عجبا لشأن المؤمن كل أمر المؤمن له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابه ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن ).
ثم بعد هذا لابد أن يعالج الإنسان عن نفسه عما دون ذلك من الصفات الذميمة كحب الدنيا ومتاعها.
وآخر دعوانا الحمد لله رب العالمين، وسبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر