وبعد:
أيها الأحبة في الله: الأمانة جوهر الدين، وحقيقة الإسلام، وعنوان المؤمن، وصفة الموحد، وضد الخيانة.
وتعريفها عند أهل العلم: حفظ ما يعهد به إليك، وتستأمن عليه، ويطلب منك حفظه ورعايته وحمايته.. هذه هي الأمانة.
والأصل فيها كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أما من الكتاب فقوله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27] وقوله سبحانه وتعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58] وقوله سبحانه وتعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب:72].
ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، قوله في توجيه نبوي كريم: (أدِ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك) بل جعلها النبي صلى الله عليه وسلم هي الإيمان، ونفى الإيمان عمن لا أمانة لديه فقال صلى الله عليه وسلم: (لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له).
فهذه الأمانة وهذا الخلق العظيم اتصف به وبأعلى قدر وبأعظم نسبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شك أنه صلى الله عليه وسلم له من الكماليات البشرية ما ليس عند غيره؛ كل صفة من صفات الكمال فعند الرسول صلى الله عليه وسلم أعلى نسبة منها، ولكن في الأمانة كان صلى الله عليه وسلم مبرزاً، حتى كان يلقب عند أهل مكة قبل البعثة والرسالة بالأمين، وكان الناس يستودعونه أماناتهم وأموالهم، حتى إنه صلى الله عليه وسلم من حرصه وحفظه للأمانة لما أمره الله تعالى بالهجرة من مكة المكرمة إلى المدينة النبوية المباركة، كانت عنده أمانات لبعض أهل مكة ، وخشي صلى الله عليه وسلم أن يسددها للناس بنفسه فتنكشف مسألة خروجه، فيحصل على أذى؛ لأن كفار قريشٍ دبروا مؤامرة خبيثة للقضاء على النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت المؤامرة في السر بعد مؤتمر عقدوه وحضره الشيطان، وأشار عليهم بأن يختاروا من كل فخذ من قبيلة قريش شاباً، ثم يُجمعوا بضرب النبي صلى الله عليه وسلم بالسيوف ضربة واحدة فيتفرق دمه بين القبائل، فلا تستطيع بنو هاشم أن تثأر له، فتقبل الدية.
ولما عزموا على تدبير وتنفيذ هذه المؤامرة كشفها الله، وأوحى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم بتفاصيلها، وأمره بالهجرة، فهاجر صلى الله عليه وسلم، لكنه كلف علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه بالتأخر في مكة من أجل رد الأمانات إلى أهلها، وبين له الأمانات، الناس عندما علموا أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج، كل واحد فيهم طلب حقه وأمانته، فـعلي موجود، قال: تعالوا وخذوا حقوقكم، وهذا من باب حرصه صلى الله عليه وسلم على أداء الأمانة.
وكذلك أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم من بعده، وكذلك التابعون وسلف هذه الأمة وخيارهم ممن سار على نهجهم إلى يومنا هذا وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، يتميز الإنسان المؤمن عن غيره من الناس بحرصه على أداء الأمانة، فحفظها -أيها الإخوة- دليل الإيمان وعنوان السعادة، وضياعها دليل النفاق وعنوان الخسارة في الدنيا والآخرة.
نعم. لا خيار لك في أن تكون أميناً أو ألا تكون أميناً، فمقتضى أن تكون مؤمناً أن تكون أميناً؛ لأن الإيمان والأمانة متلازمان، فلا يمكن أن يكون إيمان بدون أمانة، لماذا؟
للأمانة تعريف واصطلاح عند العلماء، تعريف عام، ويقصد بها: جميع ما استودعك الله عز وجل عليه، وائتمنك عليه وطلب منك حفظه من أمور دينك ودنياك، ومما يتعلق بما بينك وبين الله، وبينك وبين نفسك، وبينك وبين الناس، سواء كان الناس أقارب أو أباعد، كل هذا أمانة، وأنت مطالب بحفظها.
ولها تعريف خاص وهي: حفظ الودائع -مدلول خاص- أي شخص يضع لديك ودائع فلا بد أن تستأمن عليها ولا تخون، ومن هنا -أيها الإخوة- ندرك مدى عظمتها؛ إنها الدين كله.
فالأمانة هي الإسلام كله، ولهذا لما عرضها الله عز وجل على السماوات والأرض والجبال، أشفقن من حملها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً.
ظلوماً لنفسه إذا لم يحملها، جهولاً بعظمتها وأهميتها، ولذا تجد هذه الحقيقة في القرآن ماثلة في كثير من الناس؛ كثير من البشر يعيش عيشة البهائم، لا يتصور إلا أنه يأكل ويشرب وينام وينكح ويسهر ويسمع ويذهب ويأتي ولا همَّ له غير هذا، وما عرف أنه خلق في الدنيا للابتلاء والامتحان والقيام بهذه الأمانة أو غيرها، والله تعالى يقول: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا [الكهف:7] فلماذا زينة لها؟ من أجل أن يأكلوا ويشربوا؟ لا. لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الكهف:7] ويقول عز وجل: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2] ويقول عز وجل: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ النَّارِ [ص:27] ويقول جل ثناؤه: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115] وكثير من الناس مفاهيمه معكوسة ومقلوبة، لا همَّ له في ليله ونهاره إلا كيف يأكل؟ وكم يأكل؟ وماذا يأكل؟ وأين يذهب؟ وأين ينام؟ وماذا يصنع؟ وماذا يشاهد؟ وماذا يقرأ؟
فقط هذا مفهومه، لكن هل فكر أنه مسئول ومؤتمن على كل شيء في هذه الحياة؟
وسوف نتعرض بشيء من التفصيل لمدلولات الأمانة.
مضى يومك الماضي شهيداً معدلا وأعقبه يوم عليك شهيد |
فإن كنت بالأمس اقترفت إساءة فبادر بإحسان وأنت عنيد |
ولا تبق فعل الصالحات إلى غـدٍ فرب غدٍ يأتي وأنت فقيد |
الوقت -أيها الإخوة- أمانة، ما من لحظة تمر عليك إلا وهي جزء منك، وهي شاهدة لك أو عليك، فلا تضع أنفاسك -يا أخي- في غير طاعة الله سبحانه وتعالى، فإنك مؤتمن وستُسأل، قال صلى الله عليه وسلم كما في السنن : (لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة) فتثبت أقدام الخلائق يوم القيامة، وتُسمّر في عرصات القيامة، ولا تزول ولا يتحرك أحد، أنت الآن تذهب من هنا أو من هنا، ولكن أين تذهب يوم القيامة؟ أين المفر؟
لا يوجد مفر، الناس كلهم وقوف وأقدامهم مثبتة في العرصات، حتى يجاب على هذه الأسئلة الأربعة، إما إجابة صحيحة فيتحرك إلى الجنة، وإما إجابة خاطئة فيتحرك إلى النار.
وأيضاً: فيم أنفقه؟ المشكلة في المال مشكلة مزدوجة؛ لأنه يوجد سؤال في الاكتساب وسؤال في الإنفاق؛ مسئول عن كل ريال يدخل جيبك، ومسئول عن كل ريال يخرج من جيبك، وإذا بها مشكلة.
الذي يشتري (دش) (بعشرة آلاف) أو (بخمسة عشر ألفاً) ويضعه فوق البيت، ويمد ذراعيه إلى السماء يستمطر ما في القنوات الفضائية من الشر، ثم يدش به على أهله، فالذي سماه (دش) الحقيقة صدق؛ لأنه دش، أنت الآن عندما تتكلم على واحد وتهلكه بالكلام، تقول: والله أعطيته (دش) أي: أهلكته بالكلام، كذلك أنت ركبَّت على بيتك (دش)
فماذا يمطر على أهلك؟ وماذا ينزل عليك وعلى أولادك وزوجتك؟ هل ينزل الخير؟
لا والله. بل يظل الرجل جالساً عند زوجته وبيده (الريموت كنترول) وينتقل من قناة إلى قناة، كلما أغلق شراً دخل في آخر، وكلما انتهى من فيلم دخل في فيلم، وكلما انتهت مسرحية دخل في مسرحية، وكلما انتهت أغنية بحث عن أغنية، ما هذا؟
الله خلقك لهذا؟ عندك إجابة على هذا؟!
الآن أنت خجلان أمام قريبك أو أحد جيرانك، لا تريد أحداً يعلم أن عندك (دشاً) وبعضهم يغشيه داخل البيت ويضعه في السطح ويضع من هنا جداراً ومن هناك جداراً، ويقول: ليس عندي شيئاً، لكنه لا يعمل إلا في السماء، إذا وضعته في الغرفة لا يصلح، وهذا من العوائق التي لا يعصى الله به إلا مجاهرة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في الصحيحين : (كل أمتي معافى -أي: تحت العافية- إلا المجاهرون) من المجاهر؟ الذي يفضح نفسه بهذه الفضيحة، وهذه موجودة فوق البيت؛ فضيحة ظاهرة.
أخي في الله: يا من وقعت في هذه المصيبة، أحضر من الآن جواباً وهيئ للسؤال رداً، واعلم بأن الله تعالى سائلك، يقول الله تعالى: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ [الصافات:24] ويقول عز وجل: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر:92-93].
ويقول عليه الصلاة والسلام في الحديث كما في الصحيحين : (كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، الرجل راعٍ في أهل بيته) زوجتك وأولادك أنت الراعي والمسئول عنهم يوم القيامة، فإذا فسد الولد في المستقبل وأصبح خبيثاً شريراً كان عليك إثمه إلى يوم القيامة؛ لأنك أنت الذي أفسدته بيدك، وجلبت له هذه الوسيلة التي تفسده، وإذا فسدت المرأة كذلك، إذا فسدت البنت كذلك.. كلٌ مسئول عن رعيته.
الآن الراعي الذي يرعى الغنم لا يضيع الغنم بل يحفظها، ما رأيك براعٍ يدخل الذئب إلى غنمه؟ هذا راع أم مضيع للغنم؟ هذا مضيع للغنم، فكذلك أنت ما أتيت بذئبٍ واحد، بل وضعت على رأسك مائة ذئب، كل ذئب ينهش من زوجتك وأولادك وابنتك وعرضك، حتى تيبس عيونهم، وبعضهم لا ينام إلا وقد يبست عينه ولا يستطيع أن يغمضها، فإذا غمضت عينه اشتغل (الدش) من داخل عينه؛ تراه نائماً و(الدش) شغال؛ لأن الصور انطبعت في ذهنه وعينه.
فحياته كلها (دش)! وفي النوم واليقظة (دش)! ويقول عليه الصلاة والسلام: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به).
الاتجاه الأول: فيما بينك وبين الله، فالله سبحانه وتعالى ائتمنك، وجعل عندك أمانة وطلب منك أن تحفظها، وقال: لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27] فيلزمك بناءً على أن الله عهد إليك بهذه الأمانة أن تؤديها وإلا أصبحت خائناً.
ما هي الأمانة التي بينك وبين الله؟
كثيرة ولكن سنخصص الضخمة الكبيرة المشهورة:
العقل: هو آلة يميز الإنسان به بين الخير والشر، والحق والباطل، والهدى والضلال، والنور والظلام، ولهذا هو مناط التكليف؛ إذا رفع العقل رفع التكليف: (رفع القلم عن ثلاثة: الصغير حتى يبلغ، والنائم حتى يستيقظ، والمجنون حتى يفيق).
ثم أقام الحجة بعد الفطرة والعقل بالرسالات فبعث الرسل وأنزل عليهم الكتب لإقامة الحجة؛ لأن الحجة لا تقوم فقط بالفطرة أو بالعقل؛ لأن الفطرة أرضية، والعقل موجه، لكن ماذا يصنع الإنسان؟ كيف يعبد الله؟ هل يعبد الله بعقله؟ هل يعرف ما يحبه وما يبغضه الله بعقله؟ لا. لا بد من الرسل، ولهذا يقول الله عز وجل: رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً [النساء:165] فلقيام الحجة على الناس أرسل الله الرسل، ولهذا يقول سبحانه وتعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء:15] أي: لا تقوم الحجة على الخلق إلا ببعثة الأنبياء وببلاغ الدين، ولذا يسأل الله سبحانه وتعالى، وتسأل الملائكة الناس يوم القيامة إذا دخلوا النار: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا [الملك:8-9] أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى [الزمر:71] فقيام الحجة لا يكون إلا ببعثة الرسل.
بعث الله إليك الرسل، وبلغك الدين، وعرفت أنه مطلوب منك أن تكون موحداً، تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وهذه الكلمة اسمها: كلمة الإخلاص، وهي الركن الأول من أركان الدين، وهي أساس الإسلام، ومفتاح الدخول في الدين، والتي يودع الإنسان الدنيا بها إذا مات، ومفتاح الجنة، وأول واجب، هذه الكلمة هي: لا إله إلا الله، هي ميثاق وعهد بينك وبين الله، ولهذا أي شخص يدخل في الإسلام ماذا يطلب منه قبل كل شيء؟
يطلب منه أن يقول: لا إله إلا الله، ولو صلَّى قبل أن يقول: لا إله إلا الله فما حكم صلاته؟
غير صحيحة، ولو حج قبل أن يقول: لا إله إلا الله، فحجه مردود باطل، ولو أخرج الزكاة لا تقبل، ولو ذهب يجاهد في سبيل الله وقتل قبل أن يقول: لا إله إلا الله لا ينفع مهما عملت، أول شيء وقع العقد بينك وبين الله، وما هو هذا العقد: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
هذا هو الميثاق، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ [الرعد:19-20] هذا عهد الله وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ [الرعد:20] هذا العهد يوم أن دخلت في الدين قلت: لا إله إلا الله، أي: لا معبود بحق إلا الله؛ فلا أدع ولا أخاف، ولا أذبح إلا لله، ولا أتوكل، ولا أخشى، ولا أنذر، ولا أستعين، ولا أصلي، ولا أزكي، ولا أي شيء من أنواع العبادة إلا لله، لماذا؟ لأني قلت: لا إله إلا الله.
وهذه الكلمة ليست سهلة؛ هذه الكلمة كان الكفار في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يعرفون مدلولها، ولهذا لا يقولونها إلا صادقين.
حتى أبو طالب عند الموت، كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على أن يقول هذه الكلمة؛ لتكون حجة للرسول في أن يشفع له عند الله، لما قدمه من حماية للدين؛ هذا الرجل أبو طالب قدم حماية عظيمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى كان يقول عليه الصلاة والسلام: (ما زلت في عز ومنعة حتى مات
لما مات أبو طالب في (السنة العاشرة) للبعثة سمَّي هذا العام: عام الحزن؛ لأنه مات فيه أبو طالب وماتت فيه خديجة ، وانكشف ظهر النبي صلى الله عليه وسلم، واستطاع الكفار النيل من النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يكن هناك أبو طالب، فلما جاءته وفاته أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكافئه على خدمته للدين، لكنه لا يستطيع أن يعمل شيئاً؛ لأنه مشرك -أي: ما وقع العقد والعهد مع الله- قال: (يا عم قل: لا إله إلا الله) الآن لا صلاة ولا صيام ولا أي شيء ستموت الآن: (قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله)، فنظر إلى الجلساء وقرناء السوء؛ أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية وهم جلوس عنده، قالوا: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ يعرفون أن معنى الكلمة هذه -لا إله إلا الله- رفض لملة عبد المطلب؛ ملة الشرك والآلهة المعبودة من غير الله، فالرجل قال: بل على ملة عبد المطلب ومات عليها! فقال صلى الله عليه وسلم: (والله لأستغفرن لك ما لم أُنه عنك) ولما أراد أن يستغفر له منعه الله أن يستغفر له وقال: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [التوبة:113].
فنهى الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لعمه؛ لأنه مات مشركاً، إذ لا تنفعه شفاعة الشافعين، وقد نفعته شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم أن خفف عليه في العذاب؛ ووضع في ضحضاح من نار، والضحضاح: هو الماء الذي يغطي الكعبين، إذا دخلت في زرع أو طريق أو شيء وهو يغطي إلى كعب رجلك هذا يسمى ضحضاحاً أي: راكداً، وأبو طالب يعيش في ضحضاح من نار، تخيلوا شخصاً يعيش وكعبيه في النار! كيف يكون وضعه وهو أقل الناس عذاباً في النار؟ ويرى هو في نفسه أنه لا أحد أشد عذاباً في النار منه، وهو أخف أهل النار والعياذ بالله!
فعقيدة التوحيد -يا أخي في الله- أمانة استأمنك الله عليها في ألا توحد إلا الله توحيداً بأقسامه الثلاثة:
التوحيد الأول: توحيد الربوبية: وهو توحيد الله بأفعاله، وسميت الربوبية؛ لأنها أعمال الرب سبحانه وتعالى لا يشاركه فيها أحد، وهي: الخلق والرزق، والإحياء والإماتة، والإعطاء والمنع، والنفع والضر؛ هذه كلها لله، فلا بد أن توحده، وهذا لا يكفي، إذ لا بد من توحيد الألوهية؛ لأن التوحيد هذا وحَّده به المشركون، ويوحِّده به الآن كثير من الناس، ويظن بعض الناس أن هذا هو التوحيد، فبعض المشركين والقبوريين الآن الذين يدعون الأولياء ويذهبون إلى القبور وينذرون ويذبحون إذا قلت لهم: يا جماعة! هذا شرك لا يجوز، قالوا: لا. نحن موحدون، نحن نعتقد أن الله هو المعطي، المحيي، المانع، الضار، قلنا: هذا توحيد الربوبية وقد أقر به حتى الكفار، قال الله: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [الزخرف:9] .. وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87] فهم يعترفون أن الله هو الخالق لهم، لكن توحيد الألوهية هو الذي سقطوا فيه وقامت من أجله الخصومات بين الأمم والرسل، وشرعت من أجله ألوية الجهاد، والذي ميز الله به بين الحق والباطل.
التوحيد الثاني توحيد الألوهية: وهو توحيد الله بفعل العبد؛ أنت وحدت الله بفعل الرب وقلت: إنه الخالق، وهو الرازق والمحيي، هذا ليس لك فيه فضل أنت؛ لأنه فعل الله، اعترفت أم لم تعترف، ولكن يلزمك أن تعترف به، لكن المهم فعلك أنت، ما هو فعلك؟ العبادة، وحِّد الله بعبادتك أنت، فلا تدع، ولا تذبح، ولا تنذر، ولا تستعن، ولا تخش إلا الله، هذا معنى توحيد الألوهية: وهي صرف جميع أنواع العبادة لله وحده.
التوحيد الثالث توحيد الأسماء والصفات: وهو أن توحد الله بإثبات جميع الأسماء والصفات التي أثبتها لنفسه وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تأويل ولا تعطيل، وإنما نؤمن بأنه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] فنثبت لله عز وجل ما أثبته لنفسه، يقول الله عز وجل: وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] هذا إثبات للصفة، وننفي التأويل والتمثيل يقول تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] فهو سميع لكن سمعاً يليق بجلاله، وهذه هي عقيدة الأمة الصافية وعقيدة السلف، أما الذين دخلوا في علم الكلام والتأويل والنفي والإثبات ضاعوا -والعياذ بالله- لكنك عندما تأخذها كما جاءت، وكما أقرَّها النبي صلى الله عليه وسلم وتلقاها سلف هذه الأمة تجدها أسهل من الماء، لماذا؟ لأنها عقيدة صافية؛ هذا التوحيد هو أمانة بينك وبين الله، فلا بد أن تكون موحداً، وأن تبرأ إلى الله مما يناقض التوحيد وهو الشرك.
والشرك أقسام: أكبر وأصغر وخفي؛ شرك الدعوة والطاعة والإرادة والمحبة، الشرك: صرف شيء من أنواع العبادة لغير الله؛ مثل تصديق الكهنة، والذهاب إلى السحرة، والاعتقاد في النجوم.. كل هذه الأمور من الشرك الذي يخرج العبد من الملة ويحرمه التوحيد، وهو مخلد في النار، يقول الله سبحانه وتعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65] .. وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88] .. إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً [النساء:116].
فالشرك عظيم لا يغفره الله تعالى: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72] ولو صلى وصام وحج كل عام وتصدق بكل أموال الدنيا وهو مشرك، لا ينفع؛ لأن الله تعالى يقول: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً [الفرقان:23] أهم شيء في دين الله التوحيد الأساس، ثم بعد ذلك تأتي ببقية أعمال الإسلام، فهو أول أمانة بينك وبين الله.
ويسبقها -أيضاً- الاستعداد لها بالوضوء والطهارة، فهما أمانة، والغسل من الجنابة أمانة، من يعرف أنك جنب أو غير جنب؟ لا أحد في الدنيا يعرف أنك على جنابة إلا الله! ولذا فهي أمانة، والوضوء الآن، من يدري أنك متوضئ ودخلت تصلي وأنت على وضوء أو على غير وضوء؟
لا أحد يعلم إلا أنت، إذ بإمكانك أن تقول: أنا متوضئ والناس لا يدرون، من يستطيع أن يقول لك: لا. أنت غير متوضئ؟ سوف تقول له: ما أدراك؟ أنا أدرى بنفسي؛ أمانة بينك وبين الله! ولهذا فهي خيانة عظيمة أن تأتي تصلي وأنت غير متوضئ، كما نسمع من بعض الطلاب في المدارس أنهم يصلون الظهر وهم على غير وضوء، لماذا؟ من أجل المدير والمدرسين، هؤلاء خانوا الله والرسول وخانوا أماناتهم، فصلاتهم هذه ليست لله، بل هي شرك؛ لأنهم صلوا لغير الله، صلوا للمدرس أو للمدير والعياذ بالله!
الصلاة هي حبل بينك وبين الله، ولهذا سميت صلاة، أي: صلة، وعلى قدر تمسكك بهذا الحبل يحسب دينك وأمانتك، وإذا أردت أن تعرف منزلتك عند الله، فاسأل نفسك عن منزلة الصلاة في قلبك، إن كانت الصلاة لها موضع وحب وإشراقة وفرحة في قلبك، بحيث إذا جاءت الصلاة قمت فرحاً مثلما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، ويقول في ضمن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (ورجل قلبه معلق بالمساجد) قلبه في المسجد متعلق، جسمه في (الدكان) وحين سمع الأذان مباشرة جاء يصلي، ويقول في حديث في صحيح مسلم : (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟ قلنا: بلى يا رسول الله! قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط) رواه مسلم .
تنتظر الصلاة بعد الصلاة؛ تصلي المغرب وأنت تنتظر العشاء، وتصلي العشاء وأنت تنتظر الفجر، وتصلي الفجر وأنت تنتظر الظهر، وتصلي الظهر وأنت تنتظر العصر، رباط مع الله! هذا هو المؤمن، وهذا هو صاحب الأمانة، لكن ذلك المضيع المفلس الخاسر الذي لا خير فيه، فالصلاة آخر شيء في اهتماماته، إن أتت صلَّى، وإن ذهبت ترك.
هذا مضيع للأمانة التي بينه وبين الله، ولهذا من حفظ الصلاة حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع، وآخر ما يفقد العبد من دينه الصلاة! آخر باب يخرج منه الإنسان الصلاة! وآخر موقع يخسره في الدين الصلاة! ولهذا جاء من حديث جابر في صحيح مسلم : (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة)، وفي سنن أبي داود ومسند أحمد حديث بريدة بن الحصيب : (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر) هذه هي الصلاة، ولن نزيد على هذا حتى لا يفوتنا الوقت.
لو أن شخصاً دعاك وقال: تعال. أنا أعطيك مليون ريال، لكن أريد في كل سنة أن تخرج لي من هذا المليون خمسة وعشرين ألفاً، ماذا تقول له؟ تقول: جزاك الله خيراً، ولو تريد أن أخرج لك نصفه فسوف أخرجه، وهو صاحب الفضل، فسبحان الله! الله يعطيك هذا المليون ويطلب منك (2.5 %) ولا تخرجها؟!
وقد يقول شخص من الناس: هذا المال مالي. كلا. ليس مالك، من أين أتيت به حين جئت من بطن أمك؟ هل كان معك مال؟
كلا. خُلِقت ضعيفاً والله أعطاك المال، والله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار:6-8] فما الذي غرك؟
وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام:94] المال مال الله، ليس لديك أنت شيء.
يوجد أناس مثلك وعشرة أمثالك، بل آلاف من الناس أقوى منك جسماً وليس عندهم مال، وأكبر منك عقلاً وليس عندهم مال، وأكثر منك تفكيراً وليس عندهم مال، والله أعطاك المال، لماذا؟
ابتلاء، وليس محبة؛ بعض الناس يعطيه الله المال ابتلاء، الله يعطي المال من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من يحب، ولهذا اعتبرها سليمان عليه السلام بلاء عندما قال: لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ [النمل:40].
فالمال لا يأتي بقوة الذكاء والجسم، فأنت الآن ترى -مثلاً- صاحب العمارة عند موقف (الإسمنت) يشتري شاحنة (إسمنت) ويأتي بها وفيها أربعة أو ثلاثة عمال ينزلونها، ينزلون الكيس مثلاً (بنصف ريال) كأنه آلة أو (ماكينة) ينزل (الإسمنت) في نصف ساعة ويمشي، فلو أعطيت صاحب العمارة هذا (مائة ألف) وقلت له: أنزل (الإسمنت) هذه الشاحنة، ينزلها؟!
أعطه مليوناً، ينزلها؟!
ما يستطيع ينزلها؛ لأن ظهره سينكسر، ماذا يفعل بالمليون وقد انكسر ظهره؟! قد يتشجع ويقول: والله مليون آخذه، ويستعد ويأتي ويعصب رأسه، وينزل كيساً وكيسين وثلاثة وأربعة.. عشرة.. انكسر ظهره، ويقول: والله لا أقدر لو يعطوني الدنيا كلها. وذاك نزلها (بنصف ريال).
نعم. فهل المال يأتي بالقوة؟ لو كان يأتي بالقوة لكان الحمال هو صاحب المال، هل المال بالذكاء؟ أبداً.
تذكر كتب العلم: أن رجلاً حكيماً ذكياً عالماً لكنه مبتلى بالفقر، كان يعيش وما عنده حذاء، واستطاع خلال فترة أن يعمل أعمالاً بسيطة حتى جمع له درهمين، وهبط إلى السوق لشراء نعل، وبينما هو يمشي إذا برجل يلحقه ومعه أربعون حماراً، وتراه يحدها ويردها ويسوقها فسأله: إلى أين يا أخي؟! قال: أبيع الحمير هذه في السوق، الحمير كانت هي وسائل النقل الرئيسية، مثل السيارات الآن، قال: وهذه كلها لك؟ -فالذي عنده حمار في تلك الأيام مثل الذي عنده سيارة هذه الأيام- قال: نعم. قال: طيب. اركب على واحد منها، قال: عندي مشكلة، قال: ما هي؟ قال: إذا ركبت عليها صارت تسعة وثلاثين؛ لأنه إذا ركب يعدها وينسى الذي تحته، فيعد الذي أمامه، فتنقص وتصير تسعة وثلاثين فإذا نزل من عليها عدها وإذا هي أربعين، قال: فأنا أمشي وتصير زيادة وإذا ركبت تنقص، فتعجب هذا وقال: سبحان الله! أنا بعقلي وعلمي وحكمتي، لا أملك نعلاً في رجلي، وهذا مغفل لا يعرف كيف يعد حميره وعنده أربعين حماراً، فهل الرزق يأتي بالذكاء؟ لا.
فالله أعطاك المال، فالمال مال الله، لا تقل مالي، ولهذا يقول الله تعالى: وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ [النور:33] المال لله أصلاً؛ أعطاك (مائة ريال) وأوجب عليك (2.5 %) وجعل هذا أمانة بينك وبينه؛ شيء سري لا يعلم به أحد، ولا يعلم أحد أنك أخرجت الزكاة أم منعتها إلا الله، فلا تبخل بها، ولا تخن أمانتك، فإن عدم إخراج الزكاة مصيبة من المصائب، وهو سمة من سمات النفاق وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنْ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ [التوبة:75-77].
فالصيام أمانة، ولهذا جاء في الحديث: (كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) قال أهل العلم: كيف أن الصوم لله؟!
طيب.. الزكاة والحج أليس لله؟ قالوا: كل العمل لله، لكن الصيام لله؛ لأنه لا يمكن أن يشعر أحد أو يعلم بأنك صائم إلا الله، فهو عمل خاص بينك وبين الله.
بر الوالدين أمانة، وصلة الأرحام أمانة، والإحسان إلى الجيران أمانة، والدعوة إلى الله أمانة، وتعليم العلم للناس أمانة، ومن يعلم العلم إذا لم يعلمه العلماء؟! من يدعو إلى الله إذا لم يدع المسلمون؟! هل اليهود يدعون إلى الدين؟ لا توجد رسل بعد النبي صلى الله عليه وسلم، والله عز وجل ورث هذه الدعوة إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقال: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي [يوسف:108] وقال: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33] فالدعوة إلى الله أمانة، وستسأل عن هذا الدين: حفظت أم ضيعت؟ دعوت أم لم تدع؟
كل هذه -أيها الإخوة- هي الأمانات التي بينك وبين الله، فيم يتعلق بالعلاقة التي بينك وبينه، وهذا هو الشق الأول.
الأمانة التي بينك وبين الناس هذه مهمة جداً؛ لأن حقوق العباد قائمة على المشاحة، بينما حقوق الله قائمة على المسامحة؛ وإذا قصرت في حق الله في التوحيد ثم تبت إلى الله تاب الله عليك، إذا قصرت في الصلاة ثم تبت إلى الله تاب الله عليك، أما حقوق العباد أمر لازم وإن تبت فلا بد أن ترجعها، إذا أخذت من أحد شيئاً ثم تبت إلى الله، هل تقول: اللهم اغفر لي وانتهى الأمر؟ لا.
الله يغفر لك، لكن بعد أن ترد حق الناس إليهم؛ لأن حق الناس قائم على المطالبة والمشاحة، بينما حق الله قائم على المسامحة، والله غفور رحيم، ولهذا يقول بعض أهل العلم: إن الأمانة التي بينك وبين الناس أعظم من الأمانة التي بينك وبين الله؛ لأنه يلزمك رد الأمانة التي بينك وبين الناس، أما فيما بينك وبين الله فيلزمك فقط التوبة إلى الله منها.
والله عز وجل يغفر لك إذا علم منك اليقين والصدق بأنك جاد في التوبة إلى الله سبحانه وتعالى، وهذه التي بينك وبين الناس تنقسم إلى فروع:
فبر الوالدين قربة منجية من عذاب الله، وعقوق الوالدين كبيرة عدلت بالشرك، وقرن الله عز وجل برهما بعبادته في ثلاثة مواضع من القرآن: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً [الإسراء:23] .. أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان:14] .. وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً [النساء:36].
فبر الوالدين أمانة، ثم هو مكيال إذا وفيته وفىَّ الله لك في أولادك، وإذا أنقصته أنقص الله عليك من أولادك فهو دَين، البر دَين؛ كما تريد أن يكون أبناؤك كن لأبويك، بل الأبناء يزيدون؛ إن كنت باراً فأولادك أبر، وإن كنت عاقاً جاء أبناؤك أعق، قال صلى الله عليه وسلم: (بروا آباءكم تبركم أبناؤكم) ونعرف من القصص في حياة الناس الشيء الكثير.
رجل كان يضرب أباه، ويسحبه من رأس القصر إلى بابه، ثم يرميه في الحوش، وبعد ذلك مات هذا الشيخ، وهذا الرجل ما بقى شاباً فقد كبر ودارت به عجلة الزمان، حتى أصبح شيخاً مسناً، وجاء ابنه من صلبه يكيل له بمكياله، فكان يضربه ثم يسحبه من رأس القصر إلى الباب، ثم يرميه في الحوش، ثم يسحبه إلى الباب الخارجي ويرميه في الشارع، ولما كان عند الباب الداخلي صاح الأب وقال: يا ولدي! اتركني هنا؛ والله إني ما كنت أضرب أبي إلا إلى هنا، قال: صدقت. ولكن أنا أزيدك قليلاً.
فأنت إذا أردت أن يكون أولادك بارين بك عليك أن تكون باراً بأبيك، ومن منا -أيها الإخوة- يود أن يكون أولاده عاقين له؛ عقوق الولد من أعظم المصائب، وترى بعض الآباء الآن ليله ويل! ونهاره ليل! وتراه مكلوماً مهموماً، فيه مصيبة ولا عليه شيء إلا ولده، الذي سود الدنيا عليه، ولده! لو كان يعلم أن هذا الولد سوف يأتيه ما تزوج بأمه، فأصبح مصيبة على أبيه بالعقوق؛ لأنه يأتي لينام في الليل فلا يجده، ويبحث عنه في الفراش وليس موجوداً، يتصل إلى أقربائه فلا يلقاه، ويجلس يتقلب على الفراش لا تغمض له عين إلى أن يأتي ولده، ومتى يأتي؟ الساعة الواحدة أو الثانية!
يا ولد: أين كنت؟ قال: كنت مع زملائي. من هم زملاؤك؟ قال: زملاء.
فلا إله إلا الله! هذا من أعظم العقوق، لا تخرج من بيت أبيك من بعد العشاء ما في زملاء؛ هذا الزمان لا زملاء فيه إلا في المسجد فقط، أما أن تخرج تلف وتدور وتذهب مع الشياطين والمنحرفين وتجعل أباك وأمك في عذاب وأنت في عذاب ومشكلة.. لماذا؟
هل هذا من البر؟! لا والله. بل إنه من أعظم العقوق.
فيا أيها الشاب! احفظ هذه الأمانة وكن باراً بوالديك؛ لأنك إذا كنت باراً بوالديك رضي الله عنك في والديك، ووفقك وحفظك وسترك؛ لأن والدك إذا جاء الصباح، قال: الله يوفقك ويحفظك ويرشدك وييسر أمرك.. ما أحسن هذا! لكن إذا كنت أنت عاقاً، قال أبوك: الله يجعلها في وجهك، الله لا يوفقك، اذهب. الله لا يردك.
أحد الناس أراد أن ينام فجاءه ولده نصف الليل، قال: أريد أن أتمشى قليلاً، قال: يا ولدي! نم لا وقت للتمشي الآن، قال: لا. إني أحس بأرق، قال: قلت لك: لا تذهب، فغضب الولد وقال: إما أن توافق على الطلب وإلا فسأغضب! وهذا عقوق، لا. اطلب وإذا قال أبوك: لا، انتهى الأمر. فذهب هذا الولد إلى أمه غاضباً وقال: أريد أن أخرج وأبي لم يوافق. قامت الأم تشفع، وجاءت إلى الأب، وقالت: الولد طيب ويريد أن يتمشى قليلاً؛ لأنه تعب من الدروس، ارتكه يتمشى، قال: اتركيه يذهب الله لا يرده، فقط. ومن فمه إلى السماء، وركب السيارة وخرج، وفي إحدى المنعطفات تصدمه سيارة وتقطعه قطعة قطعة، ويجلس الشيخ المسكين ينتظر ساعة.. ساعتين.. ثلاث.. أذن الفجر وما جاء الولد، والشيخ ما عرف طعم النوم، ويعرف في قلبه أن الكلمة التي قالها صعدت إلى السماء مباشرة، يقول: خرجت أصلي الفجر ورجعت وطلع النهار وما جاء، قال: فذهبت إلى الشرطة أسأل: ولدي خرج من الليل وما رجع، قالوا: ما اسمه؟ قال: فلان بن فلان، اتصلوا بالشرطة وبالمرور، قالوا: في حوادث الليلة، ولكن المصابين في المستشفى، فليذهب وينظر، فذهب إلى المستشفى وفتحوا الثلاجة وإذا أقرب شخص وآخر شخص طرحوه هو ولده! مضرج بالدماء منتهٍ، نعم. هذه أسباب العقوق.
فلا تعق والديك ولا تلجئ والديك إلى أن يدعوا عليك، الوالد لا يريد أن يدعو أصلاً.. لا أحد يريد أن يدعو على ولده، ولكن بعض الأولاد يضطر أباه أن يدعو عليه، لماذا تضطر أباك أن يدعو عليك؟
المفروض أن تقنع أباك أن يدعو لك، ومتى يدعو لك أبوك؟
عندما تكون طيباً، يقول: فلان! فتقول: حاضر .. لبيك، وبعد ذلك: سأذهب.. وهكذا، هذا هو الولد الصالح، وهذا هو الموفق الذي يوفقه الله في دراسته، وحياته، ورزقه، وزوجته إذا تزوج، وأولاده، وعافيته، وقبره، وحشره، ويدخله الله الجنة وينجيه من النار بأسباب بر الوالدين.
هذه أمانة بر الوالدين.
الأولاد هؤلاء الذين هم عندك أمانة ائتمنك الله عليهم وجعل رعايتهم في عنقك ومسئوليتك، فعليك أن تربيهم على الدين، وتمنعهم من الشر، ولا تستقدم لهم شيئاً من وسائل الشر، وتعلمهم القرآن والصلاة، وتأمرهم بالمعروف وتنهاهم عن المنكر، وتحول بينهم وبين قرناء السوء، وتأخذهم معك إلى المسجد، خصوصاً بعد السبع؛ لأن بعض الناس لا يأمر ولده بعد السبع، يقول: هذا صغير، صحيح هو صغير ولكنك مأمور بأن تجعله يصلي، لماذا؟
لأن الصلاة عملٌ شاق؛ إذا ما دربته عليها من الصغر وصار بالغاً فإنه لا يصلي وقتها، لكنه إذا صلى وهو ابن سبع وثمان وتسع وعشر وإحدى عشر واثنا عشر.. يبلغ خمسة عشر وهو يصلي؛ متدرب عليها، لا يجد صعوبة؛ لأنها صارت شيئاً من عمله، لكنك إذا تركته إلى أن صار عمره خمسة عشر، وبعد ذلك قلت له: صلِّ، كيف يصلي؟ لا يطيعك؛ لأنه ما تدرب عليها يقول:
إن الغصون إذا عـدلتها اعتدلت ولا تلين إذا صارت من الخشب |
الغصن أخضر ولين؛ تعدله على مرادك، لكنه إذا صار خشبة معوجة؛ يظل معوجاً إلى أن ينكسر، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مروا أبناءكم بالصلاة لسبع) هل معنى هذا أن الصلاة واجبة عليهم؟
لا. الصلاة لا تجب إلا بعد البلوغ، لكن الأمر بالتدريب عليها من السابعة، حتى إذا جاء في البلوغ وإذا هو جاهز، فلا بد أن تهتم بهذا؛ لأنها جزء من أمانتك التي بينك وبين الله.
وقد جاء النص عليها في الحديث، قال عليه الصلاة والسلام: (أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله) فهي أمانة، هي بنت الناس، أبوها قبل أن يزوجك لا يرضى أن أحداً يمد عيناً عليها أو يضع عليها إصبعاً؛ بعض الآباء يغار على ابنته من الشمس والريح، لكنه بأمر الشرع يسلمك ابنته، نعم.
ويأتي بها إلى بيتك، ويذهب ويتركها لك تتمتع فيها بكل شيء، وبعد ذلك أعطاك الشرع قيادة وقوامة عليها، بحيث تأتي وتأخذها من بيت أبيها، وتقول: هذه زوجتي وهؤلاء أولادي، ما لك عليهم أمر، نعم. أي: ولو أنت أبوها، ما دمت زوَّجتها فمالك عليها سلطة.
لكن جعلها الله أمانة في عنقك، ليس معنى هذا أن أباها أعطاها لك أن تأتي وتهينها؛ لأنه لا يكرم المرأة إلا كريم، ولا يهينها إلا لئيم؛ لأن من الناس من هو نعجة أو دجاجة أمام الناس، لكنه أمام المرأة أسد، تنظره يضرب ويفعل، لكنه إذا خرج إلى الخارج لا يضرب حتى قطة، وإذا دخل البيت كان أسداً:
أسد علي وفي الحروب نعامة فتخاء تهرب من صفير الصافر |
لا يا أخي الكريم! إن خير وأبر الناس من هو عند زوجته أفضل الناس، قال صلى الله عليه وسلم: (خياركم خياركم لأهله) ويقول: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) وكان خير الناس صلى الله عليه وسلم؛ كان يسابق عائشة ، وكان يعجن لها، ويقوم بشئون أهل بيته؛ يطبخ ويكنس ويفعل، فمن منا يصنع هذا الآن؟!
لا إله إلا الله! فهذه أمانة؛ تبتسم لها، وتسلم عليها إذا دخلت، وتطعمها مما طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، لا تذهب تأكل في المطعم وتأتي لها بخبز، بعض الناس يذهب المطعم يأكل (كبسة) أو سمكاً أو (حنيذاً) بمائة أو بمائة وخمسين، وإذا دخل أخذ (سندوتشاً) أو خبزاً وأعطى زوجته، هذا حرام، يجب أن تأكل مثل أكلك، وإذا أكلت أكلاً مفضلاً عليها فأنت خائن للأمانة.
ثم يجب عليك أن تراعي حقوقها الكاملة؛ لأن الله تعالى قد جعل لها عليك حقاً، ومن حقهن الأول المعاشرة بالمعروف، قال الله تعالى: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19] وقال: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:228] أليس لك حق عليها؟ تقول: نعم. لي حق عليها لأني رجل، أيضاً لها حق عليك مثل حقك: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:228] وبعد ذلك قال الله تعالى: وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة:228] ما هي هذه الدرجة؟
قالوا: القوامة، أي: الإدارة، مثل موظف ومدير، الموظف عليه واجبات، والمدير له واجبات، لكن للمدير عليه درجة؛ لأنه المسئول، كذلك الأسرة.
فالأسرة إدارة؛ الزوجة فيها موظف والزوج هو المدير له درجة، لكن ليس المعنى الأفضلية، فيمكن أن هذه المرأة أفضل عند الله من الزوج، فكم من النساء فاضلات فيهن خير تعدل زوجها بمليون مرة؛ قوامة صوامة عابدة لله، وهو فاسق قليل دين -والعياذ بالله- ويقول: أنا رجل.
القوامة لا تعني الأفضلية، وإنما تعني المسئولية أمام الله سبحانه وتعالى، فهي أمانة عندك؛ في رقبتك وعنقك يوم تلقى الله؛ أن تحسن إليها، وتعاشرها بالمعروف، وألا تضربها، ولا تهينها، ولا تشتمها، ولا تضيع حقوقها، ولا تعتدي عليها، ولا تكره أقاربها، ولا تسبهم، ولا تلومهم أمامها، فهي لا ترضى أن تلوم جماعتها أو قبيلتها أو إخوانها؛ أو أعمامها أو أخوالها تنتقصهم وتتكلم عليهم، لا. فهذا جرح لها وتنقص، كما أنك لا تريد أحداً أن ينال من أقاربك ولا جماعتك، كذلك هي زوجتك إنسانةٌ مثلك.. هذه حقوقها.
ومن حقوقها عليك: أن تحفظها من وسائل الفساد، وتأمرها بالحجاب، وتعلمها أمور الدين، وتدعوها إلى الله.. كل هذه من الأمانة التي بينك وبين هذه الزوجة.
فالجار أمانة، تغض بصرك عن عرضه، وتحفظ ماله وتأمنه، قال صلى الله عليه وسلم: (والله لا يؤمن! والله لا يؤمن! والله لا يؤمن! قالوا: من يا رسول الله! خاب وخسر؟ قال: من لا يأمن جاره بوائقه) الذي لا يأمنه جاره بوائقه هذا ما آمن بالله، ولهذا إذا أردت أن تعرف هل أنت مؤمن أم لا؟ فاسأل الجيران، إن قالوا: والله فلان أمين.. هذا نستأمنه حتى على محارمنا. ولهذا المؤمن أمنه الناس على دمائهم وأموالهم: (والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) فالجار أمانة، وعليك أن تحفظه في غيبته وحضوره، وفي عرضه وماله وجميع شئونه؛ لأنك ألصق الناس به.
بعض الناس لا يرى أخاه ولا قريبه إلا في الشهر مرة، لكنَّ الجار تراه كل مرة، فعليك أن تكون جاراً صالحاً.
من ولاه الله أمرك، الولاية هذه من الله، فإذا ولى الله عز وجل عليك في أمر من الأمور عبداً لزمك أن تكون أميناً على ما ولاك الله عز وجل عليه؛ لأن الخيانة لولي الأمر خيانة لله ورسوله، بأن تؤدي ما طلب منك.
أولاً: الطاعة إلا في معصية.
ثانياً: الدعاء: وقد قال الإمام أبو الحسن بن علي البربهاري وهو من أئمة السنة، مات سنة (329هـ) في أول القرن الرابع، يقول: إذا رأيت الرجل يدعو للسلطان فاعلم أنه صاحب سنة، وإذا رأيته يدعو على السلطان فاعلم أنه صاحب هوى. لأن الذين يدعون على السلاطين هم الخوارج والمعتزلة ، يرون أن من دينهم الدعوة على السلطان والخروج عليه، لكن هذا ليس من معتقد أهل السنة والجماعة ؛ معتقد أهل السنة والجماعة أنهم يدعون للسلطان بالهداية والصلاح، ويطيعونه في غير معصية الله، ولا يرون الخروج عليه؛ لما يترتب على ذلك من الفتن.
فمن الأمانة أن تقوم بهذا ليس لعاطفة حب أو كره، ولا لمصلحة نفعية أو مادية، ولكن دين تدين الله به وعقيدة، ولهذا مسألة طاعة أولياء الأمور من مسائل العقيدة التي تقررها كتب العلم، والتي يهتم بها علماء أهل السنة فهم يقررون هذا في كتبهم ويؤكدون عليه، خصوصاً عند بروز الفتن وظهور القلاقل لما يجر الجهل به إلى الفساد الكبير الذي لا منتهى له، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم يقول: ومن تأمل تاريخ المسلمين وجد أن كل مصيبة حلَّت بالأمة إنما تنتج عن الجهل بهذا الأصل وهو: طاعة ولاة الأمر في المعروف أما في المعصية فلا: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، وهذا من الأمانة التي ائتمنك الله عز وجل عليها.
يوجد أشياء متعلقة بك، والله جعلها عندك أمانة وهي: الحواس، والجوارح، هذه ركبها الله في جسمك وجعلها لديك أمانة، وأعطاك الحرية في استخدامها، إن تستخدمها في طيب فأنت حفظت الأمانة، وإن تستخدمها في سيئ فقد ضيعت الأمانة.
إنه الله، والجواب إن كان سيئاً فالنار، وإن كان صحيحاً فالجنة.
بقية الجوارح، وسميت جوارحاً؛ لأنها تجرح في دين العبد.
الأذن أمانة ائتمنك الله عز جل عليها، وأمرك بحفظها عن سماع الباطل، وألا تسمع بها إلا ما يحب؛ لأنها قناة تصب في القلب، وإذا سمعت الخير تأثر القلب بالخير، وإذا سمعت الشر تأثر القلب بالشر.
اللسان أمانة: أنت مسئول عنه بين يدي الله يوم القيامة، وحفظ اللسان علامة الإيمان، يقول عليه الصلاة والسلام: (من يضمن لي ما بين لحييه وفخذيه أضمن له الجنة) وقال: (أكثر ما يدخل الناس النار الفم والفرج) أي: اللسان وما فيه من المصائب، والفرج وما فيه من المصائب.
فاللسان أمانة وفيه الكلمة، والكلمة لها مسئولية أمام الله، يقول عليه الصلاة والسلام والحديث في الصحيحين : (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) وقال: (وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب) وربَّ كلمةٍ قالت لصاحبها: دعني، فالكلمة مسئولية أمام الناس، ومن لا يقم للكلمة وزناً تجده يهذي بما لا يدري، ويخوض فيما لا يعنيه، وهذا مما يؤدي به إلى العطب والوقوع فيما لا يرضيه، فزن كلامك ولا تتكلم إلا بخير، ولا تقل إلا خيراً أو اسكت.
والرجل هذه أمانة: لا تحملك إلى باطل، ولا تمش بها إلى منكر.
الأمانة الثامنة: أمانة البطن، لا تأكل فيه منكراً أو حراماً، كل هذه الجوارح أمانة عندك واصنع ما شئت، فالآن لا أحد يسألك، لكن يوم القيامة تسأل، والذي يشهد عليك هي نفس الجوارح، يقول الله عز وجل: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [فصلت:19-21] الذي أنطق لحمة اللسان ينطق غيرها، وينطق كل شيء؛ لأن الله قادر على كل شيء سبحانه وتعالى.
فهذه أيها الإخوة أمانات مستودعة عندك فاتق الله فيها، وهذا هو المفهوم العام -أيها الإخوة- وإن كانت الكلمة -الأمانة- تحتاج إلى الحديث بشكل أوسع؛ لأنها تشمل الدين كله، لكن نكتفي بهذا في الثلاثة الفروع:
الأول: بينك وبين الله من توحيده وعبادته، الثاني: بينك وبين الناس من القيام بحقوقهم والإحسان إليهم، سواءً كانوا أقارب أو أباعد، الثالث: بينك وبين نفسك في الحواس والجوارح التي منحت لك من أجل أن تستخدمها في الخير ولا تستخدمها في الشر.
فاسأل نفسك: هل حفظت هذه الأمانة أم ضيعتها؟ وعلى ضوء حفظك للأمانة أو ضياعك لها يتقرر مصيرك في الدار الآخرة، إما الحفظ فالنجاح والفوز والفلاح في الدنيا والآخرة، وإما الضياع فالدمار والخسار والنار والعار في الدنيا والآخرة.
أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يعيننا وإياكم على حفظ الأمانة، وأن يجعلنا وإياكم ممن يؤديها حق أدائها، كما نسأله سبحانه وتعالى أن ينصر دينه، وأن يعلي كلمته، وأن يبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل الطاعة، ويذل فيه أهل المعصية، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، إنه سميع الدعاء.
اللهم احفظ لنا ديننا وأمننا ونعمتنا واستقرارنا، اللهم من أرادنا في ديارنا أو غيرنا من ديار المسلمين بسوء أو شر أو كيد فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، وأنزل عليه بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين.
اللهم وفق ولاة أمورنا وعلمائنا ودعاتنا ومشايخنا وشبابنا وشاباتنا وجميع المسلمين إلى العمل بهذا الدين والدعوة إليه والحرص عليه والمناصرة له، إنك ولي ذلك والقادر عليه.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الجواب: نعم. الذي يعطيك أمانة ينبغي لك ألا تتصرف فيها إلا بإذنه، أعطاك مبلغاً من المال وقال: أمانة. فاحتجتَ إلى هذا المبلغ، فقبل أن تتصرف فيه تسأله وتقول: يا فلان! فلوسك عندي وأنا محتاج منها شيئاً، تسمح لي؟ فإن أذن لك تصرفت، وإن لم يأذن لك فلا يجوز لك أن تتصرف في ماله إلا بإذنه، وعليك إثم، وبالتالي يلزمك التوبة إلى الله عز وجل، وأيضاً إشعار الرجل هذا واستئذانه حتى يعفو عنك.
الجواب: لا تعارض بين الآية والحديث، فإن الجنة ليست ثمناً للعمل الذي نعمله، فالعمل الذي نعمله لا يستحق أن يعطى الإنسان عليه الجنة، لكن العمل سبب، وهذا ما يعنيه النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحد الجنة بعمله) أي: لن يدخل أحد الجنة مقابل عمله، صليت؟ نعم. صليت بجسم خلقه الله، وتصدقت بمال أعطاكه الله، وجاهدت بجسم خلقه الله، فكل شيء من الله، فلن يدخل أحد الجنة نظير العمل، أي: مقابل العمل، ليست الجنة سلعة ومقابلها العمل، لكن معنى الآية: بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل:32] أي: بسبب ما كنتم تعملون، فالعمل سبب لدخول الجنة وليس ثمناً لها، وهذا معنى الحديث.
الجواب: إذا كان الرجل لا يصلي وتاركاً للصلاة بالكلية، فلا يجوز العيش معه ولا معاشرته، حتى الزوجة لا يجوز لها أن تبقى في بيته ولا يجوز لها أن تمكنه من نفسها؛ لأنه كافر، وإذا مكنته من نفسها فإنما يأتيها زناً، والأولاد الذين يأتون منه أولاد سفاح؛ لأن العقد باطل، فإنه استحلها وهو في الإسلام، فلما ترك الصلاة كان كافراً، فلا يجوز أن تبقى، ولا يجوز لوليها أن يبقيها في بيته.
وكذلك إذا كان زميلك لا يصلي فلا يجوز أن تجالسه أو تؤاكله أو تشاربه أو تسلم عليه أو تزوره إذا مرض، ولا تتبع جنازته، ولا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين إذا كان تاركاً للصلاة.
أما إذا كان يصلي ولكنه متهاون؛ مرة في المسجد ومرة في البيت ولا يترك الصلاة، فهذا عاصٍ، ولا شك أنه وقع في إثم وتَرك واجباً، وينبغي مناصحته، ولكنه لا يكفر ولا يخرج من الدين.
الجواب: جميع الأمانات التي على الرجال هي على النساء كذلك، فالنساء مثل الرجال، ولكن عليهن أمانات مختصة بهن:
أولاً: عرض الزوج وماله وأولاده وبيته كلها أمانة، فلا يدخل أحد إلا بإذنه.
ثانياً: الحجاب أمانة: فالحجاب الذي تتحجبين به أمانة؛ لأنه لا بد منه؛ لأنك إن لم تتحجبي خنتي الأمانة التي بينك وبين الله.
الجواب: الذي لا يستيقظ لصلاة الفجر فيه علامة من علامات النفاق، فإذا أردت أن تعرف نفسك هل أنت مؤمن أم منافق، فلا تسأل أحداً واسأل نفسك عن صلاة الفجر، فإن كنت من أهلها وبانتظام فاعلم أنك مؤمن، وإن كنت بعيداً متهاوناً فيها ومضيعاً لها فلتعلم أنك منافق، والدليل في الصحيحين ، قال صلى الله عليه وسلم: (أثقل الصلوات على المنافقين صلاة العشاء والفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً) فالذي لا يصلي الفجر في الجماعة على خطر عظيم؛ لأنه متصف بصفة النفاق والعياذ بالله.
الجواب: يا أخي الكريم! ما دمت لا تسمع كلام والدك فأنت غير ملتزم بل عاق، كيف لا تسمع كلام أبيك؟!! أما فيما يتعلق بكلام أبيك بإخوانك الطيبين ولقاءاتهم فأطع أباك، فإذا كان يقول لك: لا تذهب مع هؤلاء ولو كانوا طيبين، قل له: طيب. ولا تذهب، وعاود اللقاءات مع الطيبين بسماع الشريط، وبقراءة الكتاب، حتى تطع والديك، وتجمع بين الخير وتحصيله وطاعة أبيك، لكن تذهب وتجتمع مع إخوانك في الله وتعق والدك، مثل من ينفق ريالاً ويخسر (مائة) تصدقت بريال وخسرت (مائة ريال)، فالله لا يسألك يوم القيامة: لماذا لم تجلس مع إخوانك في الله؟ ولكن يسألك: لماذا لم تطع أباك؟
طاعة الوالد مقدمة على الذهاب والجلوس مع الإخوان في الله.
الجواب: أولاً: نسأل الله سبحانه وتعالى له ولأمثاله ولجميع المرضى الشفاء والأجر والثواب في الآخرة على هذا.
ثانياً: يجب أن نذكر هذه النعمة التي نحن فيها الآن؛ الذي عنده كليتين معافى وفي نعمة لا يعرفها ولا يقدرها إلا الذي فشلت كلاه، أحد إخواننا نعرفه مصاب بفشل كلوي، يقول: ما عرفنا نعمة الكلى إلا لما ضيعناها، ثم أجريت له عملية زرع كلية، وعادت إليه الحياة الأولى ومارس خروجه للخلاء وخرج منه البول -أكرمكم الله- قال: ما شعرت بأني في نعمة إلا لما خرج هذا البول، فالذي عنده فشل كلوي لا يبول؛ لأنه ما عنده كلية تخرج البول، فيخرج هذا عن طريق الآلة.
أنت الآن في ظهرك كليتين، كل كلية قدر قبضة اليد، في كل كلية (ثلاثة ملايين) وحدة تنقية، هذه الآلة الآن التي مثل (الدولاب) فيها (50 ألف) وحدة تنقي من الدم (10%) من السموم فقط، لكن الكلية التي في ظهرك تنقي (100%)، ولا تدري أنت بهذه النعمة فاحمد الله على هذه النعمة! واستخدمها في طاعة الله سبحانه وتعالى.
ثالثاً: أما السائل الكريم: فإذا حان وقت الصلاة وخشي أن يستمر الوقت حتى يخرج وقتها، جاز له أن يصلي وهو مستلق على قفاه على السرير؛ يصلي إيماءً ويدخل إلى الغرفة وهو متوضئ، ثم إذا جلس وأدخلوا فيه الإبرة وبدأوا يسحبون الدم وذهب إلى الكلية الصناعية وعاد إليه وقد أصبح منقى! وكل يومين يفعل هذا ولا يموت، فلا إله إلا الله!
نكتفي بهذا -أيها الإخوة- ونسأل الله لنا ولكم التوفيق.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر