وبعد:
أيها الإخوة في الله! أنفاس هذه الحياة معدودة، وساعاتها محدودة، ونفس يذهب فلا يعود، وساعة تمشي ولا ترجع، وأهوال تنتظرك -أيها الإنسان- يوم القيامة:
يوم عبوس قمطرير هوله فيه تشيب مفارق الولدان |
فاتقوا يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً * السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً [المزمل:17-18] وهناك أسئلة واختبارات صعبة جداً لا ينجح فيها إلا من ثبته الله عز وجل، فنسأل الله أن يجعلنا وإياكم من المثبتين في الدنيا والآخرة.
والناس في هذا الزمان -وفي كل زمان- الكثير منهم شغلوا أنفسهم أو تشاغلوا بما لا ينفعهم في الآخرة، وهذا من الفضول أن تشتغل بشيء لا ينفعك دنيا ولا آخرة، ويسميها العلماء علوم الفضلة التي الجهل بها لا يضر والعلم بها لا ينفع، إن علمت بها لم تنتفع، وإن جهلت بها لم يحصل عليك ضرر، وغالب الخلق في هذا الزمان ضالون بناءً على كيد من الشيطان ومكرٍ منه واستدراجه؛ لأنه العدو اللدود الذي أقسم أن يغوي الناس أجمعين، وأن يقعد لهم صراط الله المستقيم، وأن يأتيهم من بين أيدهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم.
هذا الشيطان سول للناس وأملى لهم، وزين لهم قضية تضييع الأوقات في ما لا ينفع، وهناك أمثلة كثيرة مما يضيق الوقت عن الحديث عنه، ولكن مثال واحد وهو ما تعود الناس أن يقرءوه في كثير من الصحف والمجلات ما يسمونه بالكلمات المتقاطعة، في جريدة أو مجلة يتعب الإنسان عقله ويجهد فكره في البحث عن هذه الكلمة أفقية كانت أو رأسية، وثم الكلمات التي توضع في هذه المربعات كلها مما لا ينفع بل ربما العلم بها يضر عندما يأتيك ستة مربعات ويقول: النصف الأول من اسم مغنٍ أمريكي مشهور، فما يهمك من اسم كافر ينعق في أقصى أرض الله؟! فتجهد نفسك على هذا السؤال الفارغ على أن تتعرف على أسماء المغنيين الأمريكيين حتى تصبح عندك أرصدة كبيرة من الثقافة بحيث إذا سئلت عن النصف الأول من اسم هذا المغني الكافر عرفته، وبعضهم يقيس ثقافته على مقدار قدرته على حل هذه الكلمات المتقاطعة، وإذا استطاع في النهاية حلها رفع رأسه تيهاً وعجباً وفخراً أنه استطاع أن يحلها، ولو سألته عن آية في كتاب الله أو حديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أو مسألة علمية من مسائل الفقه الإسلامي لوجدته أجهل من حمار أهله، ولكنه في الكلمات المتقاطعة يفهم، هذه الكلمات المتقاطعة الجهل بها لا يضر والعلم بها لا ينفع.
والله سبحانه وتعالى قد أخبرنا عن الأسئلة التي ستكون لنا حتى نستعد لأدائها والإجابة عليها يقول الله عز وجل: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [القصص:65] هذا هو السؤال الهام: فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ [القصص:66] عميت عليهم، اسودت في وجوههم، أظلمت أفكارهم؛ لأنها أخبار عجيبة، أخبار كانوا في غاية من الضلال عنها، لم يكونوا يرفعون بها رأساً، وما كانوا يحاولون أن يتعرفوا عليها بل كان همهم في غيرها، فهنا أصبحوا عمياً عنها، لما كانوا عمياً عنها في دين الله في الدنيا قال الله عز وجل: وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً [الإسراء:72] وأيضاً يقول عز وجل: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر:92-93] فالسؤالان هما: ماذا أجبت المرسَل؟ أي الرسول صلى الله عليه وسلم، وماذا كنت تعمل؟ وجواب الأول هو: متابعة النبي صلى الله عليه وسلم بتجريد المتابعة له، وجواب الثاني وهو ماذا كنتم تعملون؟ بتجريد عبادة الله وحده وعدم الإشراك به.
وهناك سؤال ثالث يقول الله عز وجل فيه: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ [الزخرف:44] تسألون عن هذا الذكر أي: القرآن، تسألون عن هذا الكتاب الكريم الذي أنزله الله نوراً وهداية للعالمين، تسألون عنه: عن حلاله وحرامه، وعن آياته وحدوده، وعن كل ما أمر الله به، وعن كل ما نهى الله عنه، وعن كل ما قص الله من خبر، وكل ما جاء فيه من حقائق: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ [الزخرف:44]. فستُسأل -يا أخي- عمن كنت تعبد؟ وماذا أجبت الرسول صلى الله عليه وسلم؟ وعن هذا القرآن الكريم؟
والناس -وخصوصاً بعض الشباب- الذين وفقهم الله وهداهم وأقامهم على الصراط المستقيم ونور بصائرهم يشعرون ببعض الفراغ، وأيضاً لديهم حماس وتطلعات لخدمة الدين، ويريدون أن يقفزوا قفزاً، وأن يتجاوزوا أكثر من أحجامهم فيصبحون (كالمنبت الذي لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى).
فكثير من الناس يحفظون وينسون، لكن الجد كل الجد في أن تحفظ وتحتفظ، تحفظ السورة وتحتفظ بها، ولا تحتفظ بالسورة إلا إذا داومت عليها وأكثرت مراجعتها وكررتها، ثم بعد أن تكمل القرآن تظل باستمرار الحال مرتحلاً؛ ترتحل من آخر القرآن وتحل في أوله، وما دمت على هذا الوضع مع القرآن، يزداد إيمانك، وتتنور بصيرتك، ويثبت الله قدمك، ويجعل الله لك مجالاً في دين الله عز وجل لا يمكن أن تتصوره إلا عن طريق القرآن الكريم، أما أن تسأل وتقول: وبعد ذلك ماذا أعمل؟! وأنت ما حفظت ولا جزءاً واحداً من القرآن الكريم؟ فهذا دليل على أنك ما فهمت إلى الآن ما هي مقومات بنائك الإسلامي.
ابدأ! أولاً: إن كنت قد حفظت القرآن ممن يسر الله لك الحفظ في مدارس تحفيظ القرآن الكريم فراجع محفوظاتك، وإن كنت لم تحفظ القرآن فابدأ بحفظ المفصل من سورة (ق) إلى سورة الناس، ابدأ بحفظ المفصل حفظاً جيداً واستوعبه حتى تهضمه بحيث يكون زادك الذي تقرأ به في كل مناسبة؛ لأن بعض الشباب تقول له: صل بالناس في صلاة الفجر يقول: لا أدري ما أقرأ، لا يدري ماذا يقرأ من القرآن! وإن كان قد حفظ فليس حفظاً متقناً وما حفظه ينساه.
فلا بد أن تستوعب المفصل كاملاً، ثم بعد ذلك تراجع تفسيره في أشهر التفاسير وأيسرها ومختصرها بحيث تعرف أحكامه، وتعرف أسباب نزوله، وتعرف مكيه من مدنيه، وتعرف الآيات التي تدل على أحداث معينة، بعد ذلك إذا أردت المزيد وكان عندك طاقة أكبر خذ البقرة وآل عمران، ثم انتق من السور، ألا تستطيع أن تحفظ مثل سورة الكهف والإسراء ومريم وطه وغافر ويس والصافات والدخان وجميع السور التي وردت فيها فضائل معينة؟ احفظها، فإذا حفظت كل هذه السور بقي عليك عملية تربيط بينها، بحيث السورة التي حفظتها هنا وهذه ما حفظتها تربط بينها بسورة واسطة وبعد فترة من الفترات ستجد نفسك بعد سنتين أو ثلاث أو أربع أو خمس سنوات وإذا بك حافظ للقرآن الكريم عن ظهر قلب، لكن إن بقيت على الوضع هذا بدون محاولات ستمر عليك عشرات السنين وأنت على عهدك ما تغيرت ولا حفظت شيئاً، ومرت عليك السنون، وضيعت عمرك في غير فائدة، هذا بالنسبة للقرآن الكريم.
تجد نفسك بعد شهر وإذا بك عالم من علماء الأمة الإسلامية، ينصر الله بك الدين، ويفتح الله بك القلوب وينور بك الأبصار؛ لأنك أصبحت إنساناً معبأً بالثقافة الإيمانية الممثلة في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبهذا تعرف كيف تقضي وقتك ولا تشعر في يوم من الأيام بأنك في فراغ أو أنك تحتاج إلى من يقول لك: ثم ماذا؟ لأن هذا الذي يقول: ثم ماذا؟ مشى إلى أن وصل في منقطع أو في فلاة ولم يعلم أين يتجه، فهذا أخطر شيء على الإنسان، كأنه في مفترق طرق أو أنه في دويرة لا يعرف أين اتجاهه، الذي يقف تائهاً يسهل على أي شخص أن يقتنصه يقول: تعال من هنا، لكن عندما يكون منوراً بالقرآن ومنوراً بالسنة وبالثقافة الإسلامية الأصيلة المقتبسة من كتاب الله ومن سنة رسول الله يتضح له الطريق؛ لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وسنتي) ويقول: (تركتكم على المحجة البيضاء -أي: الطريق الواضحة التي ليس فيها غبش- ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك).
هذه مقدمة أردت أن أجيب عليها إجابة عامة على السؤال الذي ذكره لي أحد الإخوة لتكون الفائدة عامة أسأل الله لي ولكم التوفيق في الدنيا والآخرة.
يقول ابن أبي العز في كتابه شرح الطحاوية: تواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثبوت عذاب القبر ونعيمه لمن كان لهذا أهلاً أو لذاك أهلاً نسأل الله أن ينجينا من عذابه وأن يجعلنا من أهل رحمته ورضوانه.
وأيضاً سؤال الملكين: هذا ثابت بالأحاديث المتواترة، فيجب على المسلم المؤمن اعتقاد ثبوت ذلك، والإيمان به والجزم والقطع به، ولا يتكلم في الكيفية، إذ ليس للعقل وقوف على كيفيته لكونه لا عهد له، وليس مما يلاحظ بالجوارح والحواس في هذه الدار، والشرع لا يأتي أبداً بما يستحيل على العقل، بل إن الشرع يأتي بما تحار به العقول أما تحيره فلا، فإن عودة الروح إلى الجسد بعد مغادرتها له عودة ليست كالعودة المعهودة لها في الدنيا، بل تعاد إليه إعادة تختلف كل الاختلاف عن الإعادة المألوفة في هذه الدار.
أما الخروج النهائي فهو عند الموت تخرج ولا تعود في هذه الدار، تعود في مرحلة ثانية من مراحل هذه الحياة وهي بعد الموت في القبر، وعودتها هناك تختلف عن عودتها في الدنيا، يقول الله عز وجل: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا [الزمر:42] أي: والتي لم يقض الله عليها بالموت يتوفاها أيضاً في منامها: فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً [الزمر:42] ويقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين) ويقول الإنسان عندما يستيقظ من نومه: (الحمد لله الذي أحياني بعد ما أماتني وإليه النشور).
ويقول أحد العلماء وهو يمثل لهذه القضية: إن الروح في خروجها عند النوم وفي خروجها عند الموت مثلها مثل الموظف الذي يترك العمل في إجازة والذي يترك العمل في استقالة وطي الكشف، فالذي يترك العمل في إجازة يترك عنوانه عند العمل بحيث إذا حصلت طوارئ أو حالة استدعاء عاجلة يتصلون به فيأتي؛ لأنه لا زال في العمل ولا زالت رابطة الوظيفة قائمة بينه وبين إدارة عمله، ولذا إذا أرادوه أن يأتي ولو كان في إجازة يقطعون إجازته، ولو كان في عمل لا يستطيع أن يقول: لا، بل يجب عليه أن يأتي؛ لأنها إدارته، أما المفصول نهائياً أو المطوي قيده تنتهي صلته بالوظيفة، ويستلم حقوقه، وينهي جميع التزاماته في هذه الوظيفة، ولو دعوه بعد ذلك يقول: ليس لي علاقة بكم!
فالإنسان إذا نام تخرج روحه وتجلس قريباً من جسده، لماذا تخرج؟ قال العلماء: تخرج الروح ليرتاح الجسد؛ لأن الإنسان لا يمكن أن يرتاح إلا بغياب الروح، ولو بقيت الروح مع الإنسان ولم ينم فإنه لا يرتاح، ولذا الإنسان إذا أراد أن ينام وأتى من عمل أو دوام أو سفر وهو متعب ومنهك ومحطم القوى ويريد أن ينام، فإنه لا بد من خروج روحه في النوم حتى بعد ساعتين أو ثلاث أو أربع أو خمس أو ست ساعات حسب ساعات النوم توقظه، وإذا به مرتاح جداً ولم يعد هناك أي تعب ولا ألم ولا شيء.
لكن! إذا أردت أن يرتاح على السرير ليس خمس ساعات بل عشرين ساعة، ولكن بدون نوم كلما نام أيقظته هل يرتاح؟ تقول له: حسناً! استرح لكن لا تنام! هل يرتاح؟ بل يتعذب رغم أنه مستلقٍ على السرير وجسمه مرتاح، ولا يؤدي أي دور لكن الروح موجودة، الراكب موجود على المركوب، والمركوب لا يستطيع أن يرتاح والراكب عليه، هل تستطيع إذا سافرت في سفر ومعك حمار أو جمل ثم أردت أن تنام فهل تنام على ظهر الحمار؟ لا يمكن -أبداً- بل يجب عليك أن تنزل من على ظهر الحمار، وتنزل العفش لكي يرتاح الحمار أو الجمل، ليمكنك السفر عليه مرة ثانية، والناس هكذا كلهم.
في القديم إذا سافروا ووصلوا إلى مكان معين فإنهم ينزلون وينزلون عفشهم من على دوابهم من أجل أن ترتاح دوابهم.
كذلك سيارتك هذه عندما تصل في مكان معين وتريد أن تنزل فهل تجعلها شغالة أم تطفئها؟ تطفئها، لكن إذا وقفت سيارتك وذهبت تنام وجعلتها شغالة إلى الصباح تأتي وقد انتهى الوقود وانفجر المحرك.
وقال صاحب الطحاوية في موضع آخر: اعلم أن عذاب القبر هو عذاب الفترة البرزخية الواقعة بين موت الإنسان وبعثه منذ أن يموت إلى أن يبعث. هذه فترة اسمها البرزخ فترة حياة القبور، وكل من مات وهو يستحق عذاباً ناله نصيبه من العذاب، أو كان يستحق نعيماً ناله نصيبه من النعيم قبر أو لم يقبر، أكلته السباع أو احترق حتى صار رماداً، ولو نسف في الهواء أو صلب على الأخشاب أو عُلق في المشانق أو غرق في البحار وأكلته الحيتان أو كان في أي مكان فإن العذاب يصل إلى روحه وإلى بدنه كما يصل إلى الإنسان المقبور في القبر كيف؟ لا ندري، هذا عالم آخر اسمه (عالم البرزخ) لا نعرف حقيقته، ولكن يجب علينا الإيمان بحقائقه التي تواترت في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي يريد أن يعرف حقائق ما بعد هذه الحياة فإنه إنسان يريد أن يحمل عقله ما لا يتحمل، كعقل الطفل الذي في بطن أمه ويريد أن يعرف حقائق الحياة وهو لا زال في بطن أمه، لا يمكن حتى يخرج إلى الحياة ويكبر وينمو ويبلغ سن التكليف ويعرف الكثير في الدنيا.
كذلك الإنسان لا يعرف ما في القبور إلا إذا دخلها، يعرف هل فيها نعيم أو جحيم -نعوذ بالله وإياكم من الجحيم- وما ورد من السؤال في القبر، وما ورد من الاختلاف للأضلاع والضغطة للميت كل ذلك حق يجب الإيمان به، ولو لم يدفن الإنسان في القبر ولو نسفته الريح وأكلته السباع والحيتان، فإن الله يجمعه وينال جسده من العذاب أو من النعيم ما يناله صاحب القبر، يجب أن يفهم هذا كله على مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم من غير غلو ولا تقصير.
وقد أنكرت الملاحدة أصحاب العقول المادية المتحجرة التي لا تؤمن إلا بما ترى بعينها أنكروا حياة البرزخ وذهبوا إلى مذاهب بعيدة من الفلسفة والتمنطق وقالوا: ليس ذلك بحقيقة، وأولئك كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه، وقد ظن أولئك أن أبصارهم الضعيفة يمكن أن ترى كل شيء، وأن أسماعهم يمكن أن تسمع كل شيء، ونحن اليوم نعلم من أسرار الكون ما كانت أسماعنا وأبصارنا عاجزة عن سماعه ورؤيته رغم وجوده.
الموجات الصوتية المنبعثة والمنتشرة في جميع أجواء الأرض هذا المسجد الآن ممتلئ بملايين الموجات، لكن لا نراها بأعيننا، ولا نسمعها بآذاننا، ولا نمسها بأيدينا، ولا نتذوقها بألسنتنا، ولا نشمها بأنوفنا، ولا يستطيع كتاب أن يأتي بها، وإنما يستطيع أن يلتقطها جهاز صغير هو (الراديو) ففيه وسيلة استقبال هذه الموجات والتقاطها من الأجواء وترجمتها، وإذا بك تفتحها فتسمع موجة آتية من جدة ، فتحولها فتأتي موجة من الرياض ، وتحولها فتأتي موجة من أمريكا ومن لندن ومن أقصى الأرض، من التقط هذه الموجات رغم أنك لا تراها وهي موجودة؟ التقطها (الراديو).
الجاذبية الموجودة الآن وهي قانون من قوانين الكون أن الله جل وعلا جعل كل ما على الأرض مجذوباً إليها، وهذه حكمة منه؛ لأنه لو لم يجعل الجاذبية في خصائص الأرض لكان أي واحد يرتفع لن يستطيع أن ينزل إلا إذا ربطوه.
يعني: إذا خرج أحدهم من السيارة وأراد أن ينزل فلا يستطيع أن يصل إلى الأرض إلا إذا أتى آخر وجذبه إلى الأرض، لماذا؟ لأنه لا يوجد جاذبية، ولكن الله وضع هذا القانون وهو أن كل ما على الأرض يجذب إليها، أين الجاذبية؟ هل نراها بأعيننا؟ هل رأينا حبالها وهي تربط الإنسان وتسحبه؟ موجودة لكننا لا نراها، وليس كل ما لا نراه غير موجود.
الكهرباء الآن تسري في السلك الكهربائي ولا نراها، رغم أن السلك الكهربائي هذا والكهرباء موجودة منذ خلق الله الأرض، لكن ما اكتشفت إلا على سبيل الصدفة والمصادفة، اخترعها شخص مخترع وهو يدير جهازاً عبر تحويله فإذا به يحس شيئاً في يده، فقوى السلك وخرجت كهرباء، وطورها الإنسان حتى أصبحت عماداً من أعمدة الحضارة الحديثة.
فكثير من الأشياء لا يمكن أن نراها ولا أن نلمسها بجوارحنا بالرغم من وجودها.
فالآية الأولى ساقها الإمام البخاري مستشهداً بها في تعذيب الملائكة للكفار في حال الاحتضار، والآية الثانية استدل بها على أن هناك عذابين يصيبان المنافقين قبل عذاب الآخرة: العذاب الأول ما يصيبهم في الدنيا على أيدي المؤمنين، والثاني ما يصيبهم في القبر على أيدي ملائكة عذاب القبر، قال الحسن البصري في قوله عز وجل: سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ [التوبة:101] قال: [عذاب الدنيا وعذاب القبر].
ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ [التوبة:101] فـ(ثم) هنا تفيد الترتيب مع التراخي، كأن العذاب المرتين هذا قبل عذاب يوم القيامة، مرتان في الدنيا يكون العذاب: وهو ما ينال الكافر والمنافق والعاصي والظالم والفاجر من ظلمة في قلبه وقسوة، ومن ضيق وحرج، ومن اضطراب وقلق، ومن تبرم -والعياذ بالله- وظلام في عقله، هذا والله إنه أعظم عذاب، عذاب لروحه عذاب لنفسه عذاب لقلبه، وبالتالي يندرج هذا العذاب على كل جوارحه، ثم العذاب الثاني ما يناله في القبر، وهذا من عظيم استشهاد العلماء رحمهم الله واستنتاجهم لأحكام القرآن: سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ [التوبة:101] قال: الأولى في الدنيا والثانية في القبر، وقال الطبري في كتابه تفسير ابن جرير التفسير الذي كل الأئمة عالة على ابن جرير فيه، يقول: والأغلب أن إحدى المرتين هي عذاب القبر والأخرى تحتمل أحد ما تقدم إما من الجوع أو من السبي أو من القتل أو من الإذلال أو من القلق أو من الحيرة التي تحصل للإنسان البعيد عن الله في هذه الدنيا.
أما الآية الثالثة وهي قوله عز وجل: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46] فهي حجة واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار لـأهل السنة على إثبات عذاب القبر، فإن الله تبارك وتعالى قرر أن آل فرعون يعرضون على النار غدواً وعشياً، وهذا قبل يوم القيامة، ثم قال: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46] والعياذ بالله.
قال القرطبي في كتابه أحكام القرآن : يقول: الجمهور على أن هذا العرض يكون قبل يوم القيامة يعني في البرزخ وهو حجة في تثبيت وتدليل الناس على عذاب القبر.
ومن الإشارات القرآنية الدالة على ثبوت عذاب القبر ونعيمه قوله تبارك وتعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27] وفي حديث البراء بن عازب الذي أخرجه الإمام أحمد في المسند وأخرجه الإمام أبو داود في السنن وهو صحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أقعد المؤمن في قبره أتي ثم شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فذلك قوله تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ [إبراهيم:27]) نزلت هذه في عذاب القبر.
وقد روت لنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، والحديث عنها عظيم جداً أم المؤمنين حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الصديقة بنت الصديق أبي بكر الصديق رضي الله عنه، اسمه أبو بكر بن أبي قحافة عثمان بن عامر بن عويمر ، أول من أسلم على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثاني اثنين في الغار، وخليفته صلوات الله وسلامه عليه، وضجيعه في القبر في غرفة عائشة رضي الله عنها، وهي زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وأفقه نساء الأمة على الإطلاق، وكانت فقيهة عالمة بكل أمور الأمة في الدين، في الفقه وفي التفسير وفي الحديث وفي اللغة وفي الشعر وفي الطب حتى الطب كانت طبيبة، وسألها عروة بن الزبير ابن أختها فقال: [يا أماه! من أين تعلمت الطب؟ فقالت: كان الناس يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسألونه فأعي ذلك] عندها علم عظيم رضي الله عنها وأرضاها، أمها أم رومان بنت عامر رضي الله عنها وأرضاها، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة بعد وفاة خديجة ؛ لأنه ما تزوج على خديجة حتى ماتت، وأيضاً دخل بها في المدينة بعد غزوة بدر، تزوج بها وعمرها ست، ودخل بها وعمرها تسع سنوات، روت علماً كثيراً مباركاً، أكثر من ألفين ومائتين وعشرة أحاديث، لم يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم بكراً غيرها، ولم يحب من أزواجه مثلها، وكانت تفخر بذلك رضي الله عنها.
يروي البخاري ومسلم في الصحيحين قالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أريتك في المنام ثلاث ليالٍ -قبل أن يتزوجها ورؤيا الأنبياء وحي- جاء بك الملك -أي جبريل- في قطعة من حرير فيقول: هذه امرأتك فأكشف عن وجهك فإذا هي أنت، فأقول: إن يك هذا خيراً يمضيه الله) وفعلاً تزوجت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان يُظهر حبها للناس كلهم، ففي صحيح البخاري وصحيح مسلم أيضاً عن عمرو بن العاص رضي الله عنه: أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا رسول الله! أي الناس أحب إليك؟ قال:
وكان الصحابة يعرفون ذلك فكانوا يتحرون بهداياهم يومها، فإذا كان عندها في اليوم الذي هو فيه يرسلوا الهدايا؛ لأنهم يعلمون أنه يحب أن يهدى إليه في بيتها رضي الله عنها وأرضاها، يروي البخاري ومسلم أيضاً أن عائشة قالت: (كان الناس يتحرون بهداياهم يومي وليلتي فاجتمعن صواحبي -يعني: أمهات المؤمنين- إلى
وورد في صحيح البخاري وصحيح مسلم حديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران و
فالثريد نوع من الطعام عظيم لا يأكله إلا القلائل والأفراد من الناس والملوك الكبار، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وفضل
وأيضاً في صحيح البخاري وصحيح مسلم وهذه أحاديث كلها في الصحيحين أن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا
تروي هذه السيدة العظيمة حديثاً في صحيح البخاري : (أن يهودية دخلت عليها فذكرت عذاب القبر فقالت: أعاذك الله من عذاب القبر، فسألت
وهذا الحديث أصل فيمن يوجب على الناس سؤال الله عز وجل النجاة من عذاب القبر في آخر الصلاة قبل السلام وبعد الانتهاء من التشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فإن بعض الأئمة قد ذكر أنه واجب، أنك إذا انتهيت أن تقول: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المسيح الدجال، ومن فتنة المحيا والممات). تتعوذ بالله من هذه الأربع قبل السلام وبعد الانتهاء من التحيات ومن الصلوات على النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل عليَّ عجوزان من عجز المدينة فقالتا: إن أهل القبور يعذبون في قبورهم، قالت: فكذبتهما) ما عندها علم ولا تريد أن تستقي علماً من غير رسول الله صلى الله عليه وسلم! وهذه هي وحدة التلقي! أنه لا يؤخذ الدين إلا من مصدر واحد، فهؤلاء يهوديات ومن أهل كتاب عندهم علم وجئن إلى البيت وقلن: (إن أهل القبور يعذبون قالت: فكذبتهما، ولم أنعم أن أصدقهما) تقول: ما جرأت وما طابت نفسي أني أصدقهن في دين الله حتى ولو كان عندهم علم صحيح، يجب أن تتأكد من رسول الله صلى الله عليه وسلم، تقول: (فخرجتا ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليَّ فقلت له: يا رسول الله! إن عجوزين من عجز أهل المدينة دخلتا عليَّ فزعمتا أن أهل القبور يعذبون في قبورهم فقال: صدقتا إنهم يعذبون عذاباً تسمعه البهائم. قالت: فما رأيته بعد في صلاة إلا تعوذ بالله من عذاب القبر).
وفي صحيح البخاري أيضاً عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها. أخت عائشة من أبيها فقط، أم عبد الله وعروة أبناء الزبير ، وبنت أبي بكر الصديق ، وزوجها الزبير بن العوام حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي من السابقات للإسلام، ولها مواقف كريمة عظيمة في دين الله عز وجل، أمها اسمها قتيلة وهي عامرية وقد عمرت زمناً طويلاً، وروت أسماء أحاديث كثيرة، وهي التي صنعت السفرة التي هاجر بها النبي صلى الله عليه وسلم تقول: [صنعت سفرة] السفرة هذه يوضع فيها الطعام معروفة عندنا يسمونها سفرة، الآن ليست موجودة عند الناس، السفرة جلد كان الشخص يضع فيه الطحين أو الحب أو السمن أو أي شيء، ويعلقه في كتفه ويسافر به إلى أرض بعيدة، وسميت سفرة لأنها هي وسيلة السفر أو مئونة السفر، الآن ليست موجودة؛ لأن الناس لا يسافرون على أقدامهم أو على الحمير أو على المواشي تقول : [صنعت سفرة للنبي صلى الله عليه وسلم في بيت أبي بكر ، ولما أردت أن أربطها هي والسقاء. فلم أجد شيئاً فقلت لأبي: لم أجد رباطاً، فقال: خذي نطاقك وشقيه نصفين واربطيه بأحدهما] فسميت ذات النطاقين رضي الله عنها وأرضاها، وكانت ترعى الغنم لتخفي آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثار أبيها عندما ذهبا إلى الغار في هجرته صلوات الله وسلامه عليه.
قال لها ولدها عبد الله بن الزبير حين حاصره الحجاج في مكة ، دخل عليها واستشارها في الاستسلام أو القتال فأشارت عليه بالقتال؛ لأنها كانت قوية عظيمة البأس شديدة، فقال لها: [يا أماه! إني لست أهاب الموت ولكن أهاب أن يمثل بي، فقالت: وهل يضير الشاة سلخها بعد ذبحها] ولما قتله الحجاج وصلبه دخل عليها؛ لأن الخليفة قد أوصاه بها خيراً؛ لأنها صحابية جليلة فأوصاه بها فدخل عليها وقال: [يا أماه! إن أمير المؤمنين أمرني أن أستوصي بك خيراً فهل لك من حاجة؟ فقالت: أنا لست لك بأم أنا أم ذاك الذي على الخشبة، ثم قالت له: أما آن لهذا الفارس أن يترجل؟] انظروا إلى العزة في هذه المواطن، فاستحى الحجاج وأمر بتنزيله من خشبة الصلب ودفنه، رضي الله عنها وأرضاها وكانت قوية، حتى أنه ذكر عنها أنها كانت يوم أن كثر السراق في المدينة لا تنام وهي في آخر عمرها، وكان عند رأسها تحت مخدتها خنجراً، مستعدة للبطش به والقتال، وهذا شأن المؤمنات اللاتي يقفن المواقف الصلبة.
ينبغي للإنسان أن يدرب أهله وزوجاته وبناته على ألا يكن لقمة سهلة حينما يبتلون بأي عدوان في بيوتهن أو في الطريق أو في أي مكان، بعض النساء لا تملك من أمرها شيئاً إلا أن تضعف، بل يجب أن تدافع إلى آخر قطرة من دمها، وأن تموت ولا تستسلم؛ لأن في استسلامها إهانة لها ولعرض زوجها وأهلها، لكن في دفاعها واستماتتها إما انتصار على هذا الصائل الباغي، وإما أن تموت شهيدة ويبقى عرضها لها، أما أن تستسلم وتسلم نفسها وعرضها لأي باغٍ وأي خبيث فهذا ليس من عادة أهل الإيمان، رضي الله عن أسماء ورضي عن أبيها وعن زوجها وعن أبنائها وعن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تقول أسماء في صحيح البخاري : (قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً فذكر فتنة القبر فلما ذكر ذلك ضج المسلمون ضجة) رواه البخاري والنسائي ، وزاد النسائي : (حالت بيني وبين أن أفهم) تقول أسماء : ضج الناس لما سمعوا أن العذاب في القبر فتنة، حالت هذه الضجة بيني وبين فهم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما سكنت ضجتهم قلت لرجل قريب مني: (بارك الله لك ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -تريد أن تستوعب كل كلام النبي ولا تريد أن يفوتها شيء منه- فقال الرجل: قال: إنه أوحي إلي أنكم تفتنون في القبور قريباً من فتنة الدجال) هذا الحديث رواه البخاري والنسائي وذكره صاحب جامع الأصول.
نعم سمعت.
أولاً: سمعت بالأحاديث الثابتة من قِبَلِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أطلعه الله وأسمعه وأعطاه القدرة على سماع عذاب أهل القبور أعطاه الله القدرة ففي الحديث الذي يرويه مسلم في صحيحه عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: (بينما النبي صلى الله عليه وسلم في حائط -بستان، والحائط يطلق على البستان الذي يكون فيه العنب- لبني النجار على بغلة له ونحن معه إذ جفلت به فكادت أن تلقيه وإذا أقبر ستة أو خمسة أو أربعة).
أقبر: جمع قبر، والقبر على وزن (فَعْل) مما يجوز جمعه على وجهين: على وجه أَفْعُل وفُعٌوْل فتستطيع أن تقول: قبر وقُبُور، أو قَبْر وأقَبْرُ، وعلى وزنه مثل شَهْر فتقول أَشْهُر وتقول شُهُور فالله ذكرها في موضعين فقال: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً [التوبة:36] وقال: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ [البقرة:226] فتجمع قَبْر على أَقْبْرُ وعلى قُبُور، ويجمع شَهْر على أَشْهُر وعلى شُهُور، فهنا جمعه النبي صلى الله عليه وسلم على وزن أَفْعُل.
فقال: (إذا ستة أَقْبُر أو خمسة أو أربعة قال: من يعرف أصحاب هذه الأَقْبُر؟ فقال رجل: أنا أعرفها يا رسول الله! فقال: متى مات هؤلاء؟ قال: ماتوا في الجاهلية قبل الإسلام، فقال: إن هذه الأمة تبتلى في قبورها ولولا ألا تدافنوا -يعني: لو سمعتم صيحة معذب لمتم ولما وجد بعضكم من يدفن بعضاً من الخوف والهلع- لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه) رواه مسلم في صحيحه من رواية زيد بن ثابت رضي الله عنه، وزيد هذا ترجمته من أعذب التراجم وسيرته من أعظم السير، فهو زيد بن ثابت بن الضحاك الخزرجي البدري رضي الله عنه وأرضاه الصحابي الجليل شيخ المقرئين وإمام الفرضيين وكاتب وحي النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان من كتبة الوحي وأعلم الناس بالفرائض، قال: (أعلمكم بالحلال والحرام
هذا ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم ينزل ويمسك بركاب حصان زيد وذاك يقول: تنح لا تمسكه يا بن عم رسول الله! أنت أفضل مني! أنت أقرب! أنت من بيت النبوة! فيقول: [هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا].
كلف أبو بكر الصديق رضي الله عنه زيداً بكلفة عظيمة وبجهد كبير؛ حفظ الله به الدين إلى يوم القيامة، كلفه أن يجمع القرآن بعد غزوة اليمامة ومقتل سبعين صحابياً من أهل القرآن، أشار عمر بن الخطاب رضي الله عنه على أبي بكر أن يجمع القرآن، فقال أبو بكر : [كيف نفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟] لأن الرسول لم يأمر بجمع القرآن، وإنما كان يأمر بحفظه، وما كان يأمر بتدوينه! فقال عمر : [إني أرى الموت قد استحر في الصحابة، وأكثر الذين يموتون أهل القرآن، فإن أردت أن تأمر فليحفظ وليكتب، قال عمر: فما زلت به حتى شرح الله صدره بما شرح به صدري، فجاء إلى زيد بن ثابت وكلفه بهذه المهمة، يقول زيد: والله! لحمل الجبال أسهل عليَّ من هذه المهمة -لأنه جهد، وليس بالسهل- فقال له: يا زيد ! إنك شاب عاقل ولا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن فاجمعه، فقلت له: كيف تفعلون شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: والله إنه خير، فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح الله صدره وصدر عمر رضي الله عنهم، فكنت أتتبع القرآن من اللخاف والرقاع والأكتاف والعسب وصدور الرجال] وقد بقيت هذه الصحف عند الصديق ، ثم عند الفاروق عمر ، ثم عند حفصة بعد موت عمر، ثم أرسلت به إلى عثمان فلما أخذه عثمان، أمر زيد بن ثابت وأمر مجموعة من كبار الصحابة أن يكتبوا المصحف العثماني الذي هو موجود بين أيدينا، وسيبقى موجوداً إلى يوم القيامة حتى يرث الله الأرض ومن عليها، أليس هذا جهداً عظيماً؟ من كلف به؟! من نال شرفه؟! من قام بمسئوليته؟! هذا الرجل موقفه هذا يعدل مواقف الأمم كلها إلى يوم القيامة إنه موقف عظيم رضي الله عنه وأرضاه، كان من فقهه رضي الله عنه -وهذا يجب أن يكون شأن طلبة العلم والدعاة إذا سئلوا- كان إذا سئل عن أمر قال: أوقع؟ فإن قيل: نعم وقع؛ أفتى فيه بما يعلم، وإن قيل: لا. ما وقع لكن لعله يقع، قال: دعوه حتى يقع؛ لأن بعض الناس يفترض أشياء ليست موجودة ولا وقعت ويورط العالم أو الداعية أو المفتي في أنه يقول كلاماً لقضية لم تقع أصلاً، فيكون قول القائل ليس له مبرر، فهذا من فقهه رضي الله عنه.
بعض الناس يسأل يقول: يا شيخ! في شخص عمل كذا؟ فأقول: من الشخص هذا؟ فيقول: شخص، فأقول: دعه يتكلم هو؛ لأنه إذا كان يهتم بأمر دينه يأتي يسأل بنفسه؛ لنعلم ماذا قال لزوجته بالنص بالحرف؛ لأن الحكم فرع عن الكلام الذي يصدر من السائل (الحكم على الشيء فرع عن تصوره) فقد تسأل سؤالاً بأسلوب يكون حكمه غير الحكم الآخر فيما لو سأله إنسان آخر بأسلوب آخر، فكان رضي الله عنه من فقهه أنه إذا سئل يقول للسائل: أوقع الأمر هذا التي تسأل عنه؟ فإن قال: وقع، أجاب بما يعلم، وإن لم يكن قد وقع يقول له: اتركه حتى يقع، وكان من ألطف الناس وأكرمهم, ومن أحسنهم خلقاً ولكن مع مَن؟ مع أهله في بيته يكون متواضعاً بسيطاً لطيفاً مزاجاً كثير التلطف، ولكن كان من أشد الناس توقراً واحتراماً مع الناس، كان وقوراً يهابه الناس إذا رأوه، لكن إذا دخل بيته يضع هذه الهيبة؛ وهذا من هدي الكريم صلى الله عليه وسلم.
بعض الناس تجده في خارج البيت صاحب أخلاق ما شاء الله! ولكن إذا دخل بيته يكون سيء الخلق مع أهله -والعياذ بالله- دخل الأقرع بن حابس على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا به يقبل الحسن والحسين ، فقال: (يا رسول الله! إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحداً منهم، فقال: ما أصنع لرجل قد نزع الله الرحمة من قلبه؟!).
لا يا أخي! يجب عليك إذا دخلت بيتك أن تتواضع، إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتحله الحسن والحسين ويقول: (نِعْم المطية لكما).
وفي يوم من الأيام أبطأ الرسول صلى الله عليه وسلم في السجود حتى كاد الناس يسبحون وهو ساجد فظن الصحابة أنه نسي أو قبض فلما انتهى من الصلاة قال: (إن ابني هذا ارتحلني وأنا ساجد، فكرهت أن أزعجه).
وكان صلى الله عليه وسلم يخطب على المنبر فدخل الحسن من الباب فجعل يتعثر من ردائه ويسقط ويقوم؛ فقطع الخطبة ونزل، حتى إذا جاء إليه حمله وأكمل الخطبة، هذه رحمة عظيمة منه صلوات الله وسلامه عليه، فيجب أن تكون أنت في بيتك رحيماً، إذا دخلت بيتك قَبّل أولادك قَبّل بناتك، لاعبهم، داعبهم، تواضع معهم، ادخل المطبخ وشارك المرأة؛ هذه الأمور تحببك إليهم وتجعلهم يألفونك، لكن إذا كنت غليظاً من يأتي يلطفهم؟ من تتصور أنه يقوم بهذا الدور؟ تتصور الجماعة يدخلوا يلاطفوا زوجتك؟ تتصور الجيران؟ لكن من الناس من إذا طرق عليهم أبوهم الباب وكأن الشيطان الرجيم دخل عليهم! يقال لأحدهم: أنت كيف تعمل إذا دخلت البيت؟ قال: إذا دخلت سكت المتكلم، واستيقظ النائم، وقعد القائم، .. طوارئ! دخل الغول! دخل العملاق الذي يسيطر! لكن هذا الغول إذا خرج إلى الخارج أذل من الدجاجة.
أسد علي وفي الحروب نعامـة فتخاء تنفر من صفير الصافرِ |
أي: عنده هنا بطولة على المرأة الضعيفة، وفي الخارج لا يفعل هذه البطولة فهذا جبان، أما البطولة الحقيقية هي الذي يتواضع ويلين -واللين يكون في غير ضعف، فلا تذهب إلى البيت تتمسكن مثل الهر للزوجة ثم تفرض عليك أوامرها ثم لا تستطيع أن ترفع رأسك- يكون ليناً في الحق، أما الباطل فلا يقبل فيه تراجعات ولا تنازلات، بل هو أسد وقوله مثل السيف لا يتراجع في الحق؛ لأن المرأة إذا رأت فيك اللين تجس النبض فيك فإذا وجدت في قلبك خرق إبرة لمدخل تريده لشهوتها وسمحت لها، دخلت ثم فتحت باباً عليك، لكن أقفل الباب في باب الحرام، الحرام خاصة وما لا يرضي الله أقفله ويكون موقفك فيها قوياً وصلباً لا تنازلات ولا مشاورة، أما فيما أباح الله وفي الحلال فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا) والحديث في صحيح البخاري، وفي الحديث الآخر: (ما خُيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما) صلوات الله وسلامه عليه؛ لأن الله يقول: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185] فكان رضي الله عنه من ألطف الناس مع أهله، ومن أشدهم وأرزنهم مع الناس، وكان أيضاً ذا فراسة فصلته بالوحي باستمرار وتلقيه عن الله وعن رسول الله وكتابته للوحي أكسبته قدرة على الفراسة بحيث كان يتوقع الشيء فيكون كما يتوقع.
يقول محمد بن سيرين وهو إمام من أئمة العلم وكان رحمه الله يفسر الأحلام؛ لأن الله قذف في قلبه بنور الإيمان يقول: [خرجنا مع أبي وإخوتي سبعة ونحن آتون من الشام إلى الحج، فمررنا على المدينة فدخلنا على زيد بن ثابت لنزوره، يقول: فلما رآنا قال: هذان لأم، وهذان لأم، وهذان لأم] وكان عند سيرين ثلاث نساء وله من كل زوجة ولدان، كيف عرف؟ بالفراسة رضي الله عنه وأرضاه.
هذا زيد بن ثابت الصحابي الجليل هو الذي روى هذا الحديث في صحيح مسلم : (أن النبي صلى الله عليه وسلم بينما هو في حائط لبني النجار على بغلة له إذ جفلت به فكادت أن تلقيه وإذا أقبر ستة أو خمسة أو أربعة، فقال: من يعرف أصحاب هذه الأقبر؟ فقال رجل: أنا أعرفها يا رسول الله! فقال: متى مات هؤلاء؟ قال: ماتوا في الجاهلية قبل الإسلام، فقال: إن هذه الأمة تبتلى في قبورها ولولا ألا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع).
وفي صحيح البخاري أيضاً وصحيح مسلم وسنن النسائي عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما غربت الشمس فسمع صوتاً فقال: يهود تعذب في قبورها) نعوذ بالله.
وأبو أيوب الأنصاري صحابي جليل له منقبة عظيمة انفرد بها من بين سائر الصحابة، وهو أنه صلى الله عليه وسلم نزل عليه في بيته حينما قدم من مكة إلى المدينة في الهجرة، وخصه صلى الله عليه وسلم بالنزول، وكان الصحابة حينما قدم النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار كل واحد منهم يقول: (إليَّ، فقال: دعوها فإنها مأمورة) -أي الناقة- فجاءت حتى بركت أمام بيت أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه وهو من بني النجار فمكث عنده حتى بنى صلى الله عليه وسلم مسجده وبنى حجرته التي أول ما بناها وهي حجرة سودة بنت زمعة رضي الله عنها، شهد بيعة العقبة الثانية، وشهد الغزوات كلها مع النبي صلى الله عليه وسلم، وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين مصعب بن عمير رضي الله عنه.
ويدل على سماع النبي صلى الله عليه وسلم للمعذبين في قبورهم ما رواه البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على قبرين فأخذ جريدة من النخل فشقها نصفين ثم غرز على كل قبر واحدة وقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير: أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة بين الناس) ولذا فإن عامة عذاب القبر من هذين الأمرين الأمر الأول: نقل الكلام بين الناس على جهة الإفساد وهو النميمة، والثاني: عدم التنزه من البول، أي: التسرع في عدم الاستبراء؛ لأن هناك من يفرط في هذا الموضوع، وما إن يقوم والبول ما زال يتقاطر منه! فهذا يفسد عليه عبادته، ومن الناس من يفرط في قضية الوسوسة بحيث أنه يعمل أعمالاً تخرجه من الاعتدال، ومذهب النبي صلى الله عليه وسلم وسنته أنه وسط في أنه إذا انقطع البول مرة واحدة فإنه يسلت سلتاً خفيفاً، ثم يستنجي وينضح ثوبه بالماء بحيث إذا أحس ببلل أرجعه إلى الماء قطعاً للوسواس وقطعاً للشيطان حتى لا يفسد عليه صلاته.
لكن من الناس من يربط الحبل بالسقف وإذا انتهى تعلق ثم أفلت نفسه من الحبل وقال: لعله تخرج معه قطرات، وبعضهم يتنحنح يقول: من أجل أن تخرج، ذكر ابن القيم رحمه الله في كتاب زاد المعاد هذه كلها، وبعضهم يأخذ له خرقة ويركب عليها عوداً ويفتح عضوه ثم يدخل العود ويديره يقول: أريد أن أخرج ذاك الذي في الفتحة، إذن أخرج الذي في بطنك؛ لأن الإنسان في داخله الآن نجاسة، من هو الآن الذي لا يوجد داخله منا نجاسة؟ كل شخص بداخله شيء، لكن ما دام أنه داخل لم يخرج ولم ينفصل عنك فهو طاهر، المؤمن والمسلم لا ينجس إنما إذا انفصل عنك، فأنت مسئول عما يخرج وما بعد ذلك فلست مأموراً به، فلا بد أن نكون وسطاً ومعتدلين بين الاستبراء الشرعي وبين الإفراط -والعياذ بالله- فليس هذا التنطع حسناً!
فالرسول صلى الله عليه وسلم سمع عذاب هذين اللذين في القبر وعرف كيفية عذابهم وقال: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير) وفي رواية: (أما إنه لكبير) ولكن قال العلماء: إنه كبير عند الله، وليس بكبير عند الناس، فهم متساهلون به ولا يقيمون له وزناً وهو عند الله عظيم: (أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة بين الناس).
هل يعرف أحد من الناس شيئاً من العذاب غير رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
هذا الكلام سنتحدث عنه إن شاء الله في الندوة المقبلة، ونذكر أن هناك وقائع وأحداث ذكرها العلماء منهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتاب: الفتاوى ، ومنهم تلميذه ابن القيم في كتابه: الروح ، ومنهم أئمة كبار ومن أئمة الدين ذكروا أن ذلك ممكن، وأنه يمكن أن يقع أن يرى إنسان شيئاً وأحداثاً، مرت على الناس ثقات سمعوا فيها عذاب معذب في القبر ونزلوا إليه وخاطبوه وسمعوه يتكلم، ولكن أحياناً لا يكون الأمر على إطلاقه فإن من الناس من يتصور شيئاً ولا حقيقة له.
أحد الناس يقول أنه كان يسمع في مقبرة أنين معذب، وقال: أنه تحنى وتكحل وخلع ثيابه ولم يبق إلا ما يستر عورته، وأتى يمشي على قفاه، وأتى إلى مكان الذي فيه العذاب فكلمه فلم يتكلم، ولكنه كان يسمع عذابه، فأخبر أحد الناس فجاء في الليلة الثانية وإذا بالأنين يصدر عن بومة -طائر- فهذا لما سمعه قال: هذا إنسان يعذب، والبومة لا تسكن إلا في هذه الأماكن المهجورة، تأتي في الخربات وتأتي في القبور التي لا يدخلها أحد فتسكن فيها وتنام، فإذا كان الليل ظنها البعيد أنها تعذب فلا يتصور هذا الكلام، فهذا ليس على إطلاقه، ولكن سأذكر لكم إن شاء الله من الأحداث ما يبين أن ذلك ممكن أن يظهره الله تبارك وتعالى لعبد من عباده أو لسائر من الناس مما يحصل في القبر، وأستشهد لكم بوقائع وأحداث حدثت في زماننا وفي الزمن الماضي، بإذن الله عز وجل.
الجواب: استمر في نصحه وتهدي له بعض الكتب الإسلامية والأشرطة الدينية لعل الله أن يهديه؛ لأنه إذا صلى في غير المسجد أو في البيت من غير عذر شرعي؛ فإن بعض أهل العلم قد قالوا بعدم قبول صلاته، وبعضهم قال بعدم صحتها، وبعضهم قال: إنه ارتكب إثماً من أعظم الآثام؛ لأنه ترك واجباً دلت عليه الأحاديث والآيات من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والصلاة جماعة في المسجد شيء معلوم من الدين بالضرورة، حافظ عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، وحافظ عليها أصحابه من بعده، وحافظ عليها سلف الأمة، وهو ديدن المؤمنين، وهو عنوان أهل الإيمان، ولا يصلي في بيته إلا منافق كما قال ابن مسعود : [من سره أن يلقى الله غداً مؤمناً فليحافظ على هذه الصلوات الخمس حيث ينادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق] نسأل الله أن يهدي هذا الشاب لكي يصلي في المسجد حتى ينمو إيمانه إن شاء الله.
الجواب: أما معاكسة النساء والاتصال بهن سواء كانت هذه المعاكسة عن طريق الهاتف، أو عن طريق المراسلة، أو عن طريق المتابعة بالسيارات، أو عن طريق النظر إلى النوافذ والبيوت فكل هذا محرم في شريعة الله عز وجل، وهو ليس من أخلاق أهل الإيمان، بل هو من أخلاق السفلة عباد الشهوات الذي يمتلئ الإنسان منهم من رأسه إلى قدمه شهوة محرمة -والعياذ بالله- ولا يقيم لله أمراً، ولا يخاف من الله عقوبة، ولا يراقب الله ويعلم أن الله يراه في هذه اللحظات، فهذا عبد شهوته، هذا مثله مثل العير -والعياذ بالله- فإنه إذا رأى أنثى فإنه يرفع مسامعه ويطردها، لكن العاقل المؤمن إذا رأى شيئاً من هذا فإنه يخاف الله عز وجل ويغض بصره ويذكر أن الله يراه.
يقول الحسن البصري لما قيل له: [كيف نستعين على غض البصر؟ قال: بعلمك ويقينك أن نظر الله إليك أسرع من نظرك للمرأة التي تنظر لها]
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان |
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني |
استشعر مراقبة الله عز وجل، واعلم بأن الله يراك تبارك وتعالى ويعلم ما في قلبك: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19] فإذا كنت في الليل لا تقتحم على المسلمين بيوتهم ولا تنتهك حرماتهم، ولا تستعمل هذه الآلة وهذا الجهاز (الهاتف) الذي هو وسيلة من الوسائل الطيبة التي أتاحها الله للناس في هذا الزمان ليقضوا أغراضهم لا تستعملها استعمالاً سيئاً -والعياذ بالله- فتقتحم على الأسر وتعاكس النساء، ماذا تستفيد بهذا؟ ماذا تكسب؟ تكسب سخط الله، تكسب إحراق قلبك، تكسب إحراق دينك ويقينك، تكسب خدش عرض أخيك المسلم؛ وكل هذه التبعات والمسئوليات تكتب عليك إن لم تتب إلى الله أو عوقبت عليها، ووالله! لتعاقبن على كل نغمة، ويوم القيامة تكون هذه تلوى عليك في النار إن لم تتب إلى الله عز وجل، لا تعاكس أحداً، وإذا كانت لك رغبة في المكالمة والمحادثة مع النساء فسارع في الزواج وتزوج؛ لأن المكالمات لا تحل إشكالك، بل تُذكِّي النار وتُشِبُّ الجحيم في قلبك؛ لأنك إذا كلمت امرأة لا تحل لك وأنت في أرض وهي في أرض احترق قلبك، فمن الذي سوف يجعلك تركب مع ابنته أو تقعد مع ابنته، وهب أنك استطعت أن تصل إلى الحرام فهل وصولك إلى الحرام يحل مشكلتك معها؟ لا. سيبقى الحرام يزيد ويزيد، لا يحل مشكلتك مع النساء إلا زوجة حلال، تتزوج بها وتستحلها بكلمة الله، ثم حدثها من الشروق إلى الغروب لا تنام، وكلمها بالهاتف، فهذه زوجتك وحلالك.
أما عمل قوم لوط فهو محرم -والعياذ بالله- يقول عبد الملك بن مروان: [والله لو أن الله ما حدثنا في القرآن عن عمل قوم لوط والله ما صدقت أن ذكراً يركب ذكراً] لأن هذا غير موجود في الحيوانات لا يوجد حمار يركب حماراً، الحمار أعقل من الذي يعمل هذا العمل، القرود والخنازير والكلاب من أشد الحيوانات جنساً، ولهذا يضرب بها المثل في النذالة والخسة والحقارة لكنها -وهي أشد شيء في ذلك- لا يركب الذكر الذكر مستحيل أبداً، لا يركب قرد كلبة ولا يركب كلب حمارةً أبداً، وإنما من جنسه، لكن اللوطي -والعياذ بالله- لا يتورع أن يركب رجلاً، ولا يتورع أن يركب كلباً، ولا يتورع أن يركب حتى حمارة، لماذا؟ أقذر إنسان على وجه الأرض بل أقذر مخلوق -والعياذ بالله- ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به) وحكم الصحابة فيه التحريق بالنار، وحكمهم فيه أنه يحمل إلى أعلى مكان في المدينة ثم يرمى ويتبع بالحجارة أخذاً من عمل الله بقوم لوط الذين قال الله فيهم: جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود:82-83].
وقد ورد في بعض الآثار أنه (إذا ركب الذكر الذكر اهتزت السماوات والأرض لغضب الله عز وجل فتمسك الملائكة بأطراف السماء وتقرأ سورة الإخلاص حتى يسكن غضب الرب، ولولا البهائم الرتع والشيوخ الركع والأطفال الرضع لصب الله العذاب على أهل الأرض صباً بسبب هذا العمل) فالله يقول: أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ [الأعراف:80] إن هذا هو غاية المسخ للإنسانية، وغاية الشذوذ وإخراج الإنسان من إنسانيته أن يتحول إلى أن يكون أقذر من الكلاب والقردة والخنازير -والعياذ بالله- فلا يعمل، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله من عمل عمل قوم لوط، لعن الله من عمل عمل قوم لوط، لعن الله من عمل عمل قوم لوط).
أما عذابهم في الآخرة فلا يتصوره العقل نعوذ بالله وإياكم منه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر