إسلام ويب

انشراح الصدر [1،2]للشيخ : سعيد بن مسفر

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الهداية نعمة عظيمة يمنحها الله لمن يريد من عباده، وهي ضمان لجلب السعادة وانشراح الصدر. وقد شرح الله صدور أنبيائه، فقاموا بالدعوة على وجهها الأكمل، وامتن الله بهذه النعمة على رسوله الكريم محمد صلى الله عليه وسلم. وقد حوت هذه المادة بياناً لعاقبة الإعراض عن الله، مع إيراد قصة أسئلة قريش التي أخذوها من اليهود، ووجهوها للرسول صلى الله عليه وسلم، بالإضافة إلى الحديث عن أسباب انشراح الصدر.
    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، لك الحمد بالإسلام، ولك الحمد بالقرآن، ولك الحمد بالإيمان، ولك الحمد بالصحة والعافية في الأبدان، ولك الحمد بالأمن والطمأنينة والاستقرار في الأوطان، ولك الحمد بالأرزاق التي تُجلَب رغداً لنا من كل مكان، اللهم لك الحمد بكل نعمة أنعمت بها علينا، من قديم أو حديث، أو شاهد أو غائب، أو حي أو ميت، اللهم لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد بعد الرضا، ولا حول ولا قوة إلا بك.

    أيها الإخوة في الله! إن من أجلِّ النعم ومن أعظم المنن على العبد في هذه الحياة، أن يشرح الله صدره للإسلام، نعمة ليست كسائر النعم، لأن جميع النعم تؤدي دوراً ثم تنتهي آثارها، أما نعمة شرح الصدر للإسلام فهي نعمة تلاحقك آثارها في الدنيا، وعند الموت، وفي القبر، وعلى الصراط، وفي عرصات القيامة حتى تدخل الجنة.

    فالمال نعمة -ولا أحد ينكر هذا- وهو مما حبب إلى الناس، ولكن ينفع فقط إلى أن يموت الإنسان فإذا مات فلا مال له، والمال للورثة من بعده.

    والمنصب نعمة، الأمر والنهي والتكريم والتبجيل نعمة، وكل إنسان يحبها، ولكنها نعمة تنتهي بانتهاء المنصب، فإذا انتهى المنصب انتهت النعمة.

    والعافية نعمة، والأولاد نعمة، والزوجات نعمة، وكل متع هذه الحياة في الغالب نعم، ولكنها نعم وقتية زائلة تنفع ثم تنتهي، ولكن النعمة الكبرى هي النعمة التي لا تنتهي، ولا تنقطع آثارها، هي: (نعمة شرح الصدر لهذا الإسلام).

    امتنان الله على رسوله بنعمة شرح الصدر

    امتن الله بها على خير خلقه وأكرم رسله؛ خير من وطئ الثرى، وخير من أقلت الأرض، وصاحب اللواء يوم العرض، نادى الله كل الأنبياء في القرآن بأسمائهم: يا نوح .. يا إبراهيم .. يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ ... [القصص:31] يا عيسى، كلهم بالاسم إلا محمداً لم يقل الله له: يا محمد، بل قال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً [الأحزاب:45] وقال: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [المائدة:67].

    ناداه باسم النبوة والرسالة أكرم درجة على وجه الأرض، وهذا النبي الكريم امتن الله عليه بنعمة شرح الصدر، فقال له: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح:1] في معرض النعم، وجاءت هذه بعد قصة حصلت للنبي صلى الله عليه وسلم ضاق لها صدره في هذه الأرض؛ لأن الله أخر الوحي عنه خمس عشرة ليلة، حينما جاء كفار قريش وأرسلوا مندوبين إلى يهود المدينة، وقالوا: إنكم قوم أهل كتاب، وقد ظهر فينا رجل يزعم إنه نبي، ونريد أن نسألكم: هل هو نبي أم لا؟ فقال اليهود عندما رجعوا إلى كتبهم: اسألوه ثلاثة أسئلة، فإن أعلمكم بالجواب فهو نبي، وإلا فهو كذاب متقول، قالوا: وما هي الأسئلة؟ قالوا: اسألوه عن رجل صالح طاف الأرض، واسألوه عن فتية آمنوا بربهم وزادهم الله هدى، واسألوه عن الروح، فأخذوا الأسئلة، وجاءوا إلى مكة، وقابلوا النبي صلى الله عليه وسلم، وقدموا له الأسئلة، وهو لا ينطق عن الهوى، ولا يجيب إلا بما يوحى إليه من ربه، ولو تقدم بكلمة واحدة أو تأخر عن الوحي لعاقبه الله، ولهذا قال الله تعالى: وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً [الإسراء:73] إلى قوله تعالى: إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ [الإسراء:75] بسبب الافتراء، ولكنه حاشاه صلى الله عليه وسلم، ولما قدمت له الأسئلة قال لهم: تعالوا في الغد، ونسي أن يقول: إن شاء الله، من بالغ اعتماده وثقته بربه أنه لن يتخلى عنه، خصوصاً في مثل هذا الموقف الحرج الذي يترتب عليه إسلام أهل مكة أو كفرهم، وهذا موقف مصيري جداً.

    والله يربي نبيه صلى الله عليه وسلم، ويعلم تبارك وتعالى من هو الذي سيسلم ومن هو الذي لن يسلم، ويعلم أنهم وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً [الأعراف:146] فالقضية ليست قضية عدم قناعة إنما هي عدم رضا بالدين أصلاً، ويرون الآيات الدالات الواضحات، يقول الله تعالى فيهم: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ [العنكبوت:51].

    وتأملوا في القصة التالية مدى تأثرهم بالقرآن، يذكر أصحاب السير أنه اجتمع الأخنس بن شريق وأبو جهل والوليد بن المغيرة، ويأتون -وهم من صناديد قريش- في الليل ليستمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يسحرهم ويجذبهم ببلاغته وبيانه وفصاحته؛ لأنهم ملوك البيان وأساطين الفصاحة، وهم يتلذذون بالكلام العظيم، وأتوا يسمعون، فتلاقوا في الطريق، فقال بعضهم لبعض: أنتم الكبار، فإذا رآكم سفهاء قريش فماذا يصنعون؟! قال الأخنس بن شريق : نتعاهد على ألا نرجع، فتعاهدوا على ألا يرجعوا، وفي الليلة الثانية إذا بهم يتقابلون، وقد نقضوا العهد وجاءوا لسماع القرآن، لم يستطيعوا أن يصبروا عن بلاغة القرآن؛ لأنهم أصحاب تذوق في هذا المجال، فقال الأخنس : ما دمنا نحن العقلاء ونتعاهد ونخلف، فلماذا لا نسلم، ما يضرنا لو أسلمنا؟ فقام أبو جهل -عليه من الله ما يستحق، فرعون هذه الأمة- وقال: والله لا نسلم، قال: ولِمَ؟ قال: نحن سابقنا بني هاشم في المجد حتى إذا كنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي، فمتى يصير هذا منا، والله لا نسلم!!

    عنده عنجهية وعناد وإلا فهو واثق أنه رسول الله.

    وأبو طالب الذي يلفظ أنفاسه على ملة عبد المطلب يعرف الحق، وهو القائل:

    ولقد علمت بأن دين محمـد     من خير أديان البرية دينا

    هو على يقين من صدقه ويدافع عنه، ولكن رأسه (يابس) وصلب، على الكفر ما تزحزح -والعياذ بالله- فهم لا يكذبون الرسول؛ لأنهم يعلمون صدقه، ولكنه إنكار وجحود وتكبر وعناد، ولهذا قال الله: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33].

    تأخر الإجابة عن أسئلة قريش والحكمة من ذلك

    انتظروا أن يأتيهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخبر، وانقطع عنه الوحي تلك الليلة، وفي اليوم الثاني جاءوا إليه، وقالوا: أخبرنا عن إجابة الأسئلة الثلاثة، قال: ما جاءني وحي من الله، فأقاموا الدنيا وما أقعدوها!! وأرغوا وأزبدوا، وقالوا: بطل سحر ابن أبي كبشةأبو كبشة هو زوج حليمة السعدية التي أرضعت النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا يسبون الرسول صلى الله عليه وسلم به ويقولون: ابن أبي كبشة-.

    ونالوا من الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف، ولكنه صامت وصابر، ومر اليوم الثاني، والليلة الثالثة، والرابعة، حتى مر خمسة عشر يوماً وليلة والوحي منقطع لا يأتيه، والرسول صلى الله عليه وسلم في حرج لا يعلمه إلا الله، ثم بعد ذلك ينزل الفرج على رسول الله صلى الله عليه وسلم بنزول سورة الكهف، وهي تبدأ بالحمد، وبذكر الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه عبد الله، وتقول: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً * وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً [الكهف:1-5] ثم قال الله تعالى له: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ [الكهف:6] أي: تريد أن تهلك نفسك إذ لم يؤمنوا ولم يهتدوا، لا. لا تهلك نفسك، فالمصير والمرجع إلينا، فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً * إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً [الكهف:6-8] ثم بدأ الله تعالى بالإجابة عن الأسئلة:

    الجواب عن السؤال الأول: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ [الكهف:9] هؤلاء الشباب المؤمنون إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً ... [الكهف:13] إلى آخر القصة.

    وجاء الجواب عن السؤال الثاني: وَيَسْأَلونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً ... [الكهف:83] الآيات.

    وجاء الجواب عن السؤال الثالث في سورة الإسراء قبل سورة الكهف: وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً [الإسراء:85].

    إكرام الله للرسول صلى الله عليه وسلم برفع ذكره

    وينزل الفرج بعدها بقوله تبارك وتعالى: وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [الضحى:1-3].

    سبحان الله! كيف العذر؟! وما أعظم هذا الرسول عند الله! يقسم الله تعالى له بالضحى، والليل إذا سجى: أي: غطى الأكوان كلها، والضحى: حين شروق الشمس وانتشار الضياء، والليل إذا سجى أي: تسجى به الأرض -أي: مثل الغطاء- ما ودعك أي: ما تركك ولا قلاك ولا هجرك، ولكن هناك شيء محذوف فما هو؟

    هو أن يربيك الله سبحانه وتعالى حتى لا تغلط فتقول غداً أفعل... ولكن قل: إن شاء الله؛ لأنك لا تعلم ما يكون غداً، قال الله تعالى له: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:23-24] الأمر بيد الله وليس بيدك، اربط كل شيء في حياتك بمشيئة الله، أما أن تكون لك مشيئة خاصة منفردة عن مشيئة الله فلا، ولهذا قال واحد من الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم: (ما شاء الله وشئت يا رسول الله! قال: أجعلتني لله نداً، بل قل: ما شاء الله وحده) ما لي مشيئة إلا تحت مشيئة الله تبارك وتعالى، فقل: ما شاء الله وحده، وهذا من ضبط العقيدة، ومن سد ذرائع الشرك، فلا تقل لأحد: ما لي إلا الله وأنت! أو أنا متكل على الله وعليك! تعتقد أنه يضر وينفع؛ فلا ضار ولا نافع ولا معطي ولا مانع إلا الله.

    وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [الضحى:1-5] ثم امتن الله تعالى عليه بالنعم فقال له: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى [الضحى:6-8] ثم بعد ذلك تنزل سورة الشرح يقول الله تعالى له: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح:1-4] ليس على وجه البسيطة -ولن يكون إلى يوم القيامة- أعلى ذكراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، فأكرم أهل الأرض وأكرم الخلق أجمعين رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وهل يوجد الآن في الأرض أعظم ذكراً منه؟ فالمسلمون اليوم عددهم ألف مليون مسلم على وجه الأرض، وكل المصلين يصلون عليه كل يوم، وكل فرد منهم يصلي عليه ويشهد أنه رسول الله عدة مرات في الأذان والتشهد وغيرها، ولا تقبل صلاته إلا إذا قال في تشهده: (التحيات لله الصلوات الطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله).

    وكم مؤذن يرتفع صوته ويشق عنان السماء في كل يوم! وهو يقول في أذانه: (أشهد أن لا إله إلا الله .. وأشهد أن محمداً رسول الله) فهل هناك أعظم من هذا الذكر؟ وهل هناك في الخلق أعظم ذكراً من محمد صلى الله عليه وسلم؟ لا يوجد، ورسولنا صلى الله عليه وسلم يذكر حياً ويذكر ميتاً وكلما صلي عليه -صلوات الله وسلامه عليه صلاةً دائمةً متتابعة ما تتابع الليل والنهار- امتن الله عليه بالرفعة والمكانة العظيمة.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088540824

    عدد مرات الحفظ

    777219376