صيام النوافل من الأمور التي حض عليها الشرع الحنيف ورتب عليها الأجر الجزيل، ومن الأيام التي تصام تتنفلاً ستة أيام من شوال، ويستحب فيها التعجيل لورود الأمر النبوي بإتباع رمضان بها، ومما يستحب صيامه من الأيام يوما الخميس والإثنين.
ما جاء في صوم شوال
شرح حديث (صم رمضان والذي يليه وكل أربعاء وخميس ...)
شهر شوال جاء فيه صيام الست من شوال، وهذا ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سيأتي، وأما صيام شوال، وصيام الأربعاء والخميس الذي جاء فيه الحديث فهذا لا يصح وغير ثابت، وإنما الثابت هو صيام ست من شوال، وما جاء فيه من ذكر صيام الدهر، (أن لأهلك عليك حقاً) هذا ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهذا ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصيام الدهر يضعف ولا يمكن من إيصال الحقوق إلى أهلها سواءً أهله أو أقاربه.
قوله: [ (صم رمضان والذي يليه) ].
الذي هو شوال.
قوله: [ (وكل أربعاء وخميس) ].
الأربعاء ما ثبت فيه شيء، والخميس ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صيام الإثنين والخميس في أحاديث كثيرة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصيام شوال بأكمله ما ثبت فيه شيء، وهذا الحديث لا يحتج به، فهو حديث ضعيف؛ لأن فيه من هو مقبول لا يحتج به إلا عند المتابعة، وليس هناك ما يشهد لذلك في صيام شوال وصيام الأربعاء، وإنما الذي ثبت هو صيام ست من شوال كما سيأتي.
يعني: إذا فعلت كذا وكذا تكون بذلك صمت الدهر، ولكن الثابت أن الإنسان إذا صام ثلاثة أيام من كل شهر فهو كمن صام الدهر كما جاء ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما كون الإنسان يصوم شوالاً ويصوم الأربعاء والخميس، ويكون بذلك صام الدهر، فهذا الحديث لم يثبت.
تراجم رجال إسناد حديث (صم رمضان والذي يليه وكل أربعاء وخميس ...)
أورد أبو داود باب صيام ست من شوال، وستة أيام من شوال صيامها ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء في بعض الروايات عند النسائي تفصيل ذلك بأنه إذا صام رمضان فيكون يقابل عشرة أشهر، وإذا صام ستاً من شوال يقابل شهرين، فيكون صام ثلاثمائة وستين يوماً؛ لأن اليوم عن عشرة أيام، والحسنة بعشر أمثالها، وهذا يوضح ما جاء في الحديث: (شهرا عيد لا ينقصان) وقد سبق أن المقصود بذلك أنه إن كان ناقصاً فهو كامل في الأجر والثواب؛ ولهذا جاء التفصيل بأن رمضان يعادل عشرة أشهر، وستاً من شوال تعادل صوم شهرين، وقد يكون الشهر تسعة وعشرين يوماً، فيكون ناقصاً، ولكنه قال: (لا ينقصان) يعني: في الأجر، وإن حصل النقص في العدد بأن يكون تسعة وعشرين يوماً فإن الأجر فيه كامل، ويكون كأنه صام ثلاثين يوماً، وهذا الذي جاء في هذا الحديث يبين هذا الحديث وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (شهرا عيد لا ينقصان). ثم إن صيام ست من شوال أورد أبو داود فيه حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: (من صام رمضان وأتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر).
يعني: يشبه صيام الدهر؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها، واليوم عن عشرة أيام، كما أن قوله: (من صام رمضان وأتبعه بست من شوال) يدل على أن الإنسان لا يأتي بصيام الست إلا بعدما يؤدي القضاء الذي عليه؛ لأنه لا يقال للإنسان إنه صام رمضان إلا إذا أدى ما عليه سواءً الفرض أو قضاء الفرض، يعني: لو أن أحداً كان عليه شيء من رمضان فيبدأ بالفرض قبل النفل ويشتغل به؛ ولهذا قوله صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان وأتبعه) لأن من لم يصم ما عليه من رمضان لا يقال: صام رمضان بل رمضان باق في ذمته، وقوله صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان ثم أتبعه بست من شوال) دال على أن المقصود بذلك من أدى ما عليه من الفرض في وقته وليس عليه قضاء، وإن كان عليه شيء من رمضان فعليه أن يبدأ بقضاء رمضان ثم يصوم ستاً من شوال، ولا يتشاغل بالفرض عن النفل، وقد قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: قال بعض الأكابر: من اشتغل بالفرض عن النفل فهو معذور، ومن اشتغل بالنفل عن الفرض فهو مغرور.
قوله: (ثم أتبعه بست من شوال) يدل على أن المبادرة إلى صيامها بعد العيد هو الأولى؛ لأن هذا هو الذي يقتضيه الإتباع في قوله: (ثم أتبعه بست من شوال)، ولكن إن لم يفعل فإن الشهر كله وقت وزمن لها، ولكن لا يؤخرها عن شوال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بست من شوال) فهو في حدود شوال، يعني: من صام أثناء الشهر يكون حصل منه المطلوب، ولكن الأولى أن يبادر إلى الصيام بعد العيد إذا أمكنه ذلك؛ لأن هذا هو الذي يتحقق به الإتباع، ولكنه إذا لم يفعل وأتى بها سواءً كانت مجتمعة أو متفرقة فإن ذلك يحصل به المقصود، ثم إن كون الإنسان يصوم ستاً من شوال هذه بمثابة السنة الراتبة بعد الفريضة، وقد جاء في الحديث أن التطوع يكمل به الفرض إذا لم يكن أتمه وإذا كان في نقص، كما سبق أن مر بنا الحديث في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو بمنزلة الراتبة في صلاة الفريضة، ثم أيضاً كون الإنسان يأتي بصيام هذه الست يدل على رغبته في الطاعة ومحبته للصوم؛ لأنه أتى بالطاعة التي هي الصيام في رمضان، ثم بعد ذلك أتى بالتطوع، ويدلك كذلك على أنه لا يودع الصيام بانتهاء شهر الصيام، وإنما يصوم تطوعاً لله عز وجل، والله تعالى قد قال في الحديث القدسي: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه).
تراجم رجال إسناد حديث (من صام رمضان ثم أتبعه بست من شوال ...)
أورد أبو داود رحمه الله باب كيف كان يصوم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ يعني: في النفل، والمقصود من إيراد هذه الترجمة بيان فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه كان في بعض الأشهر يكثر من الصيام حتى يقال: لا يفطر، ومعناه: أنه يكمل الشهر، وفي بعضها: (يفطر حتى يقال: لا يصوم) فهذا هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل هذا وهذا، وأما قوله فقد جاء في أحاديث كثيرة صوم كذا وصوم كذا وصوم كذا، ولكن فعله الذي تحكيه عائشة رضي الله عنها أنه كان يصوم حتى يقولوا: لا يفطر، ومعناه: أنه يريد أن يكمل الشهر، وكان يفطر حتى يقولوا: لا يصوم، معناه: أنه يكمل الشهر غير صائم، ثم يصوم، ومعنى ذلك: أنه لا يخلي شهراً من صيام، ولكنه أحياناً يكون كثيراً، وأحياناً يكون قليلاً، ثم بينت مثالاً للكثير وأنه لم يستكمل شهراً إلا رمضان، وهذا بيان منها أن النبي صلى الله عليه وسلم ما أكمل شهراً متطوعاً، ولكنها أخبرت بأنه أكثر ما كان يصوم في شعبان، وهذا يبين لنا ما تقدم من أنه يصوم شعبان كله، وأن المقصود به الغالبية والأكثر، كما جاء في هذا الحديث: (وأنه كان أكثر ما يصوم في شعبان) ولم يكن يستكمل شهراً إلا رمضان، ومعنى هذا: أن ما جاء عنها في بعض الروايات عن شعبان أنه يصومه ويصله برمضان أن هذا محمول على الغالب، وليس معنى ذلك أنه قد استكمله كما في هذا الحديث الذي جاء عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها.
تراجم رجال إسناد حديث (كان رسول الله يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم)
هي عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، الصديقة بنت الصديق ، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورضي الله تعالى عنهم وعن الصحابة أجمعين.
شرح حديث (... كان يصومه إلا قليلاً بل كان يصومه كله)
أورد المصنف حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أنه كان يصومه إلا قليلاً، بل كان يصومه كله) وهذا إشارة إلى كثرة ما كان يصوم فيه، ولكن ما جاء أنه لم يكن يستكمل شهراً إلا رمضان دال على أنه لا يستكمل صيام أي شهر من الشهور.
تراجم رجال إسناد حديث (...كان يصومه إلا قليلاً بل كان يصومه كله)
أورد أبو داود صيام الإثنين والخميس، وهذان اليومان قد جاءت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم باستحباب صيامهما، وجاء في ذلك أحاديث منها حديث أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما هذا الذي أورده المصنف أنه كان مولاه قد سافر معه إلى وادي القرى، وهو واد تابع للمدينة في الشمال منها، وهو الذي سار فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذهب إلى تبوك، وهو الذي فيه الحديقة التي خرصها رسول الله صلى الله عليه وسلم للمرأة وقال: إذا رجعنا فأخبرينا بالنتيجة، فلما رجعوا وإذا الواقع مطابق لما خرصه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحديث صحيح وقد سبق أن مر.
وأسامة سافر معه مولاه، وكلمة (مولى) تأتي من الأعلى ومن الأسفل، فيقال للسيد أو المعْتِق: مولى، ويقال للعبد أو المعْتَق: مولى، ولهذا يقولون: من أنواع علوم الحديث معرفة الموالي من أعلى ومن أسفل؛ لأنه قد يكون مولىً لأنه سيد، وقد يكون مولىً لأنه عتيق.. قد يكون منْعِماً وهو السيد، وقد يكون منْعَماً عليه وهو المعتق، فيقال: مولى من أعلى ومولى من أسفل، فيقال: مولى فلان، يعني: أنه مولى من أسفل، وفلان مولى فلان، يعني: مولاه من أعلى، والولاء يكون أيضاً بغير العتق، فيكون بالحلف، ويكون بالدخول في الإسلام، مثل البخاري رحمة الله عليه كان الجعفي مولاهم؛ لأن أحد أجداده أسلم على يد واحد من الجعفيين، فكان جده ينسب ويقال له: الجعفي مولى، والبخاري كذلك يقال له: الجعفي مولى، وكان الولاء ولاء إسلام على يديه، وكان ولاء عتق، وهو من أعلى ومن أسفل.
مولى أسامة بن زيد هذا ما وجدت له ترجمة، وفي عون المعبود قال: إنه مجهول، لكن الجهالة لا تؤثر؛ لأن فضل صيام الإثنين والخميس جاء في أحاديث عديدة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون له شواهد.