قال: أما والله لقد سألت عنها خبيراً، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بل ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوىً متبعاً، ودنياً مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك -يعني: بنفسك- ودع عنك العوام، فإن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيه مثل قبض على الجمر، للعامل فيهم مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله، وزادني غيره قال: يا رسول الله! أجر خمسين رجلاً منهم؟ قال: أجر خمسين منكم
) ].أوردها أبو داود رحمه الله في هذا الحديث، وهو حديث أبي ثعلبة الخشني جرثوم بن ناشر رضي الله تعالى عنه، أن رجلاً سأله عن قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105].
فالمقصود بالسؤال: أنه قد يفهم منها أن الإنسان إذا اهتدى لا يضره ضلال غيره إذا ضل، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس بالواجب، ولكن سبق أن مر حديث أبي بكر رضي الله عنه، حيث قال: إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها في غير موضعها، ثم بين أن المقصود من ذلك بعد أن يأمر الإنسان وينهى، وليس معنى ذلك أنه يترك الأمر والنهي، ولكنه إذا أدى ما عليه فعند ذلك لا يضره ضلال من ضل إذا اهتدى.
أما أن يترك الأمر والنهي ويكفيه أن يكون قد اهتدى، فهذا ليس بصحيح، ولهذا استنتج من قوله: إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ، أن الاهتداء يقتضي أن يهدي غيره، وأن يرشد غيره، وأن يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر.
فلما سأل هذا الرجل أبا ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال: لقد سألت خبيراً، يعني: عندي علم في هذه الآية.
فيريد أن يؤكد له أن الجواب عنده، وأنه سأل من عنده علم، ثم أخبر أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
قوله: [(بل ائتمروا بالمعروف)].
يعني: ليأمر بعضكم بعضاً بالمعروف، ولينه بعضكم بعضاً عن المنكر، ولا يمسك الإنسان عن الأمر والنهي، ويتعلل بأنه قد اهتدى، وأنه لا يضره من ضل إذا اهتدى، بل عليه أن يأمر وينهى، وبعد ذلك يكون قد أدى الذي عليه، ويكون مأجوراً على أمره ونهيه، وإن حصل أن استجيب له فذلك هو المطلوب، وذلك خير على خير، وإن لم يحصل أن استجيب له فإنه مأجور على نصحه وأمره ونهيه، وبذله الخير لغيره.
قوله: [ (حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً) ].
يعني: أن الناس غلب عليهم الشح والحرص على المال، والتنافس في تحصيله، والشح: بمعنى البخل، بل هو أشد البخل؛ ولهذا يقول الله عز وجل: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9].
والبخل عام وخاص؛ لأنه يطلق على بعض أفراد البخل ويقال له: شح، وليست كل أفراد البخل شحاً، وإنما يقال للجميع بخل، ويقال لكل ما كان أشد من غيره شح.
قوله: [ (وهوىً متبعاً) ].
يعني: أن الناس اتبعوا أهواءهم، ولم يتبعوا ما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، بل أعرضوا عن كتاب الله وعن سنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وما كان عليه الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
قوله: [ (ودنياً مؤثرة)].
يعني: أن الناس يؤثرونها ويحرصون عليها، ويؤثرون العاجلة على الآجلة، ويحبون العاجلة ولا يهتمون بالآجلة، بل ترى الإنسان يؤثر الدنيا على الآخرة، ويحرص عليها ويغفل عن الآخرة.
قوله: [ (وإعجاب كل ذي رأي برأيه) ] أي: أن يعجب الإنسان برأيه ولا يعول على نصوص الكتاب والسنة، وإنما يعول على رأيه، والحق هو التعويل على ما جاء في الكتاب والسنة، واطراح الآراء إذا كانت مخالفة لما جاء في الكتاب والسنة.
قوله: [ (فعليك بنفسك، ودع عنك أمر العوام).
يعني: عند ذلك عليك أن تجتهد في خلاصك ونجاتك، وتدع عنك الناس، وذلك لقلة الجدوى والفائدة؛ لأنها حصلت هذه الأمور التي انشغلوا بها عن الاستجابة والالتزام بما جاء عن الله وعن رسوله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
قوله: [ (فإن من ورائكم أيام الصبر)].
يعني: إن من ورائكم أياماً الصبر فيها عظيم، ومما يحصل من فتن في تلك الأيام فالقابض على دينه فيها كالقابض على الجمر، يعني: من شدة الأهوال والفتن، فالذي يكون على الجادة يكون غريباً بين الناس، والقابض على دينه فيها كالقابض على الجمر.
قوله: [ (فإن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيه مثل قبضٍ على الجمر)].
الذي يقبض على الجمر تجده يتململ ولا يستطيع أن يبقي الجمر في يده، بل يريد أن يتخلص منه، فالذي يصبر على دينه في ذلك الزمان كالقابض على الجمر، ومعناه: أن فيه شدة، والجمر يحرقه ويؤلمه، ولكنه مع ذلك متمسك بدينه كصبر القابض على الجمر.
قوله: [ (للعامل فيهم مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله)].
(للعامل فيهم) يعني: في ذلك الوقت، (مثل أجر خمسين يعملون مثل عمله) وزاد أحد الرواة في الرواية: (قيل: منهم؟ قال: بل منكم)، يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم بذلك أصحابه صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن الصحابة رضي الله عنهم أعمالهم أفضل من غيرهم، وأن أي شخص من الصحابة هو أفضل من أي شخص يجيء بعدهم من التابعين وأتباع التابعين ومن بعدهم؛ لأنهم شرفوا بصحبة النبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وشرفهم الله بالنظر إلى طلعته، وبسماع حديثه من فمه الشريف، فسمعوا صوته عليه الصلاة والسلام، ونقلوا السنة إلى من بعدهم، فهم الحاملون لما جاء عن الله وعن رسوله من الكتاب والسنة، والذين أدوها إلى من بعدهم، فهم الواسطة بين الناس وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا كل أحد من الرواة يحتاج إلى معرفة حاله، إلا الصحابة فإنه يكفي الواحد منهم شرفاً أن يقال: إنه صحابي، ولا يحتاج إلى أن يبحث عن حاله، وهل هو ثقة أو غير ثقة، هذا شيء لا يذكر عند الصحابة، ولهذا لا يوجد في كتب التراجم عند ذكر الصحابي أن يقال: ثقة أو هو كذا.. أو هو كذا.. وإنما يكفيه شرفاً أن يقال: صحابي، أو له صحبة، أو صحب النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا فإن المجهول فيهم في حكم المعلوم، ولهذا يكفي أن يقال: عن رجل صحب النبي صلى الله عليه وسلم، وأما لو جاء لفظ (رجل) في أثناء الإسناد فإن الحديث يكون بذلك ضعيفاً، وأما الصحابة رضي الله عنهم فالجهالة فيهم لا تؤثر، والمجهول فيهم في حكم المعلوم رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
إذاً: ففضلهم لا يدانيهم فيه أحد، والأجر الذي يحصلونه لا يساويه أجر أحد يجيء بعدهم، وذلك لأن العمل القليل منهم لا يعادله عمل الكثير من غيرهم، وذلك لأن الذي حصل منهم إنما هو مع النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الجهاد مع النبي عليه الصلاة والسلام، والذب عن النبي عليه الصلاة والسلام، والدفاع عنه عليه الصلاة والسلام، وكان الإسلام غريباً في أول الأمر، وأهله فيهم قلة، ومع ذلك كانوا يتنافسون في الذب عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، ويتسابقون ويفدونه بأرواحهم وأجسادهم عليه الصلاة والسلام، ورضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، فالأجر الذي يحصله من جاء بعدهم لا يساوي ما حصلوه من الأجر والثواب ولاسيما فيما يتعلق بتبليغهم السنن، فإنهم الذين بلغوا الكتاب والسنة، ومعلوم أن كل من جاء بعدهم وبلغ سنة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، فإن ذلك الصحابي الذي بلغ هذه السنة وحفظها عن النبي عليه الصلاة والسلام يكون له مثل أجور كل من عمل بهذه السنة من حين تبليغ الصحابي وإرشاده إلى نهاية الدنيا.
هو أبو الربيع سليمان بن داود العتكي الزهراني ، وهو ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[ حدثنا ابن المبارك ].
هو عبد الله بن المبارك المروزي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ حدثنا عتبة بن أبي حكيم ].
عتبة بن أبي حكيم صدوق يخطئ كثيراً، أخرج حديثه البخاري في خلق أفعال العباد وأصحاب السنن.
[ حدثني عمرو بن جارية اللخمي ].
عمرو بن جارية اللخمي مقبول، أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد وأبو داود والترمذي وابن ماجة .
[ حدثني أبو أمية الشعباني ].
حدثني أبو أمية الشعباني هو: يحمد ، وهو مقبول أيضاً، أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[ سألت أبا ثعلبة الخشني ].
هو جرثوم بن ناشر رضي الله تعالى عنه، وهو صحابي، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة، وهذا الإسناد فيه مقبولان، وفيه ذلك الذي هو صدوق يخطئ كثيراً؛ فضعفه الألباني ولكنه قال: إن ما يتعلق بالصبر، والأيام التي فيها الصبر، والقابض على دينه كالقابض على الجمر هذا كله صحيح، وأما بقيته الذي جاء في هذا الإسناد فهو ضعيف.
قال أبو داود: هكذا روي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه ].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (يوشك أن يأتي زمان يغربل الناس فيه غربلة..).
والغربلة: أنهم يفتنون فيتميز الصالحون من غيرهم وتبقى حثالة كالنخالة التي تكون في المنخل عندما يغربل فيه الحب أو الدقيق، فإنه يسقط الشيء الخالص، ويبقى الحثالة التي لا تدخل من ثقوب المنخل، فهؤلاء الذين يبقون هم مثل الحثالة التي تبقى في المنخل، والذين فيهم الخير يخرجون كما يتساقط الدقيق أو الحب من فتحات أو من خروق المنخل.
قد مرجت عهودهم وأماناتهم، يعني: اختلطت وذهب الوفاء بها فتذهب الأمانات ولا يوفى بالعهود.
قوله: [ (قد مرجت عهودهم وأمانتهم، واختلفوا فكانوا هكذا وشبك بين أصابعه) ].
شبك بين أصابعه يعني: كما تتداخل الأصابع مع بعضها عند التشبيك بحيث تختلط وتمتزج، يكون هذا شأن هؤلاء الذين مرجت عهودهم وأماناتهم.
قوله: [ (فقالوا: وكيف بنا يا رسول الله؟! قال: تأخذون ما تعرفون، وتذرون ما تنكرون) ].
يعني: كيف بنا إذا كان في ذلك الوقت، قال: تأتون ما تعرفون يعني: ما هو معروف، وتدعون ما تنكرون يعني: ما هو منكر أي: ما عرفتم أنه حق فاعملوا به، وما أنكرتم شيئاً ولم تعرفوا أحقيته فاتركوه.
قوله: [ (وتقبلون على أمر خاصتكم، وتذرون أمر عامتكم) ].
وتقبلون على أمر خاصتكم، يعني: كل يسعى لسلامة نفسه وحفظها، وكونهم مرجت عهودهم وأماناتهم، وصاروا بهذه الأوصاف والهيئات معناه أن الإنسان يحرص على أن يبقى سالماً، وألا يصيبه ما أصابهم، وألا يحصل له ما حصل لهؤلاء الذين مرجت عهودهم وأماناتهم، ومعلوم أن الأمانات عامة تشمل كل ما بين الإنسان وبين ربه، وكل ما بينه وبين الناس، كما قال الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58].
أي: كل ما أمر به الإنسان سواء كان حقاً لله أو حقاً للمخلوقين فإن عليه أن يؤديه، وبذلك يكون أدى الأمانة، وإذا كان بخلاف ذلك فإنه يكون قد خان الأمانة، والصلاة أمانة، والزكاة أمانة، والغسل من الجنابة أمانة، وكل هذه أمانات، وحقوق الآدميين أمانة، وعلى الإنسان أن يؤدي الأمانات.
هو عبد الله بن مسلمة القعنبي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[ أن عبد العزيز بن أبي حازم حدثهم ].
عبد العزيز بن أبي حازم صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن أبيه ] .
سلمة بن دينار ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن عمارة بن عمرو ].
عمارة بن عمرو ثقة، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[ عن عبد الله بن عمرو بن العاص ].
عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة وهم: عبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن الزبير بن العوام وعبد الله بن عباس بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنهم وعن الصحابة أجمعين وعبد الله بن عمرو أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ قال أبو داود : هكذا روي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه ].
يعني: أنه جاء من وجوه أخرى غير هذا الوجه، وغير هذا الطريق.
أورد أبو داود حديث ابن عمرو من طريق أخرى، وهو مثل الذي قبله، قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: (بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذكر الفتنة فقال: إذا رأيتم الناس قد مرجت عهودهم، وخفت أماناتهم، وكانوا هكذا -وشبك بين أصابعه- ..) .
فكون الناس تخف أماناتهم ولا يؤتمنون وكذلك العهود لا يوفون بها فهذه من فتنة المحيا.
قوله: [(مرجت عهودهم)].
يعني: أنهم كلهم على عدم الوفاء بالعهود، وكذا عدم الأمانة، فكلهم اختلطوا وصاروا بهذه الطريقة.
قوله: [ (قال: فقمت إليه فقلت: كيف أفعل عند ذلك جعلني الله فداك؟ قال: الزم بيتك)].
يعني: ابتعد عن الفتن.
قوله: [ (واملك عليك لسانك) ].
يعني: لا تتكلم بما لا ينبغي، فلا تكون سبباً في الفتنة لا بقول ولا بعمل.
قوله: [ (وخذ بما تعرف ودع ما تنكر) ].
يعني: ما عرفت أنه حق فخذ به، وما عرفت أنه منكر فدعه وابتعد عنه.
قوله: [ (وعليك بأمر خاصة نفسك) ].
يعني: اجتهد في خلاصك، ولا تهلك مع من هلك، كما جاء عن بعض أهل العلم أنه قال: لا يغتر الإنسان بطريق الشر ولو كثر السالكون لها، ولا يزهد عن طريق الخير وإن قل السالكون لها، فليس العجب ممن هلك كيف هلك وإنما العجب ممن نجا كيف نجا، لأن الهالكين كثيرون، والله تعالى يقول: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116]، وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103].
فالهلاك هو الغالب، ولهذا لا يستغرب حصول الهلاك، وإنما العجب من النجاة؛ لأن الناجين قليلون بالنسبة للهالكين، فليس العجب ممن هلك كيف هلك، وإنما العجب ممن نجا كيف نجا، فلا يزهد الإنسان في طريق الخير لقلة السالكين، ولا يغتر بطريق الشر لكثرة الهالكين، فالإنسان يحرص على أن يكون من القليل الناجي ويحذر أن يكون من الكثير الهالك.
قوله: [ (وعليك بأمر خاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة) ].
يعني: حيث لا يجدي ولا يفيد عملك معهم شيئاً، أما إذا كان مفيداً، وينتفع الناس بالنصح والأمر والنهي فلا يعدل عنه.
قوله: [ (جعلني الله فداك) ].
الصحابة رضي الله عنهم يفدون الرسول صلى الله عليه وسلم بأرواحهم وبآبائهم وأمهاتهم، رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
وبالنسبة للتفدية بالآباء والأمهات -أي قول: فداك أبي وأمي- هذا ما يعرف أنه قيل إلا في حق الرسول صلوات الله وسلامه وبركاته عليه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أعز من الآباء والأمهات، وأحب إلى الناس من آبائهم وأمهاتهم؛ لأن النعمة التي ساقها الله للمسلمين على يديه أعظم وأجل نعمة، ولهذا كانت محبته يجب أن تكون فوق محبة الآباء والأمهات، كما قال عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين).
لكن كونه يفدي بنفسه لشخص آخر قد يكون جائزاً، لأن من الناس من يكون بقاؤه خيراً للإسلام والمسلمين، فذهاب من دونه وفقدانه أهون من ذهاب من كان في هذه المنزلة، لكن قضية التفدية بالآباء والأمهات هذه غير معروفة إلا في حق الرسول صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
قوله: [(عليك بخاصة نفسك)] يعني: اجتهد في خلاص نفسك، فلا تهلك مع من هلك.
يقول صاحب العون: وفي هذا رخصة في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا كثر الأشرار، وضعف الأخيار.
لكن كثرة الأشرار وقلة الأخيار هذا هو الأصل، وسنة الله في خلقه أن الهالكين هم الكثيرون، وأن الناجين هم القليلون، فلو ترك الأمر لقلة الأخيار وكثرة الأشرار فمعناه أنه يترك نهائياً، ولكن المقصود: حيث لا يجدي الأمر والنهي، أو يحصل به مضرة على الإنسان.
وقد ورد التشبيك بين الأصابع في مقام المدح والثناء في حديث المؤمن للمؤمن، وجاء هنا في جانب الذم، ففيه الإشارة إلى الاختلاط والامتزاج، وأنهم كلهم بهذه الطريقة، ففي جانب المدح كالبنيان: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً وشبك بين أصابعه)، وهؤلاء مرجت عهودهم وأماناتهم فصاروا هكذا في اختلاطهم وامتزاجهم، كما تمتزج الأصابع في بعضها البعض عند التشبيك، وهؤلاء كذلك تداخلوا وامتزج بعضهم ببعض، وصاروا على قلب رجل واحد، وعلى وجهة واحدة وهي عدم الوفاء بالعهود وعدم أداء الأمانات.
هو هارون بن عبد الله الحمال البغدادي ، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[ حدثنا الفضل بن دكين ].
الفضل بن دكين هو أبو نعيم ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ حدثنا يونس بن أبي إسحاق ].
هو يونس بن أبي إسحاق السبيعي ، وهو صدوق يهم قليلاً، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[ عن هلال بن خباب أبي العلاء ].
هلال بن خباب أبو العلاء صدوق، أخرج له أصحاب السنن.
[ قال: حدثني عكرمة ].
هو عكرمة مولى ابن عباس ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ قال: حدثني عبد الله بن عمرو ].
عبد الله بن عمرو مر ذكره.
أورد أبو داود حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر أو أمير جائر)، وذلك أن الجهاد فيه احتمال السلامة واحتمال الهلاك؛ لأنه يقتل، وقد ينتصر ويغلب، ويحصل الغنيمة والأجر والثواب من الله عز وجل، وأما السلطان الجائر فهو قاهر لمن بين يديه، فيبطش به، ويؤدي ذلك إلى هلاكه، ويكون هلاكه أقرب من هلاك من يجاهد في سبيل الله، فمن أجل ذلك كانت الكلمة التي تقال عنده بهذه المنزلة، والمقصود من ذلك: أنه عندما يقول كلاماً باطلاً في مجلسه لا يسكت عليه، وإنما يبين أن الحق هو كذا، ولا يقر الباطل ويسكت عليه، وإنما يبين الحق وأنه خلاف ما يقول، وأن الذي قاله ليس بصحيح وإنما الصحيح هو كذا وكذا، لأن هذا هو الذي جاء عن الله وعن رسوله عليه الصلاة والسلام، فكونه يكون عند سلطان جائر معناه: أنه يكون عرضة للهلاك، لاسيما إذا كان ذلك الجائر معروفاً بإزهاق النفوس وإتلافها بأي سبب من الأسباب ولو كان أمراً يسيراً.
محمد بن عبادة الواسطي صدوق، أخرج له البخاري وأبو داود وابن ماجة.
[ حدثنا يزيد -يعني ابن هارون- ].
هو يزيد بن هارون الواسطي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ أخبرنا إسرائيل ].
هو إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ حدثنا محمد بن جحادة ].
محمد بن جحادة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن عطية العوفي ].
هو عطية بن سعد العوفي ، وهو صدوق يخطئ كثيراً، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي وابن ماجة .
[ عن أبي سعيد الخدري ].
أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعطية العوفي يخطئ كثيراً، والحديث صححه الألباني ولعل ذلك لشواهد.
والصدع بالحق يعني به العلماء الذين عندهم معرفة، وإلا فإن غير العالم يمكن أن ينكر ما هو معروف لجهله وعدم بصيرته، فليس كل واحد يقبل منه الأمر والنهي، ولهذا قالوا: لابد في الأمر والنهي من العلم والبصيرة، لقول الله عز وجل: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108].
وقد ذكرت الأثرة في بعض الأحاديث لكنها غير الجور، فالأثرة: الاستئثار بالمال، والاستئثار بحظوظ الدنيا، وأما الجور فهو العدوان على الناس بسفك دمائهم أو سلب أموالهم.
وهذا الحديث لا يستفاد منه مشروعية الكلام على أخطاء الولاة على المنابر؛ لأن هذا تشهير وإيذاء، والإنسان لا يرضى لنفسه أن ينصح على المنابر، وأن يشهر به على المنابر وأن يتكلم معه بحضرة الناس، ولهذا قال الشافعي رحمة الله عليه: من نصح أخاه سراً فقد نصحه وزانه، ومن نصحه علانية فقد فضحه وشانه.
أورد أبو داود حديث العرس بن عميرة الكندي رضي الله عنه.
قوله: [ (إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها وأنكرها كمن غاب عنها) ]
معناه: أنه كأنه لم يرها لأنه رأى شيئاً وأنكره، فهو مثل الذي لم ير؛ لأنه سلم بهذا الإنكار، وذاك سلم بكونه ما رأى.
قوله: [ (ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها) ].
يعني: إذا سمع بأمر قد حصل وهو غائب عنه ولكنه أعجبه كان كمن شهده، لأنه رضي بالأمر المنكر، ورضي بالأمر المحرم، فهو بهذا الرضا وبهذا الفرح والسرور لحصوله رغم غيبته كالذي حضر أو شهد.
هو محمد بن العلاء بن الكريب أبو كريب ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ أخبرنا أبو بكر ].
هو أبو بكر بن عياش، وهو ثقة، أخرج له البخاري ومسلم في المقدمة وأصحاب السنن.
[ حدثنا مغيرة بن زياد الموصلي ].
مغيرة بن زياد الموصلي صدوق له أوهام، أخرج له أصحاب السنن.
[ عن عدي بن عدي ].
هو عدي بن عدي بن عميرة، وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[ عن العرس بن عميرة الكندي ].
العرس بن عميرة رضي الله عنه صحابي، أخرج له أبو داود والنسائي.
أورد أبو داود الحديث من طريق آخر، وهو مثل الذي تقدم.
قوله: [ حدثنا أحمد بن يونس ].
أحمد بن يونس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ حدثنا أبو شهاب ].
أبو شهاب عبد ربه بن نافع الحناط، وهو صدوق يهم، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[ عن مغيرة بن زياد عن عدي بن عدي عن النبي صلى الله عليه وسلم ].
وهذا مرسل.
أورد أبو داود حديث رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: مبهم غير معروف، وقد عرفنا أن الجهالة للصحابة لا تؤثر، وأن المجهول فيهم في حكم المعلوم، رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
قوله: [ (لن يهلك الناس حتى يعذروا أو يعذروا من أنفسهم) ].
يعني: فسر بأن المقصود بذلك أنها تكثر فيهم الخطايا والذنوب، وأنهم إنما حصل لهم الهلاك بعد أن قامت عليهم الحجة ولم يبق لهم عذر، بل الحق واضح أمامهم وقد عصوا وأقدموا على ما أقدموا عليه على بصيرة.
سليمان بن حرب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ وحفص بن عمر ].
حفص بن عمر ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[ قالا: حدثنا شعبة ].
هو شعبة بن الحجاج الواسطي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن عمرو بن مرة ].
هو عمرو بن مرة الهمداني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن أبي البختري ].
هو سعيد بن فيروز ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ أخبرني من سمع النبي صلى الله عليه وسلم ].
أي: رجل من الصحابة سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث بهذا الحديث.
قوله: [(هذا لفظه)] يرجع إلى حفص بن عمر الذي هو الشيخ الثاني؛ لأن أبا داود له في الحديث شيخان: سليمان بن حرب وهو الشيخ الأول، وحفص بن عمر وهو الشيخ الثاني، وقد ساقه على لفظ حفص ، ولهذا قال: وقال سليمان : حدثني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه ساقه على لفظ حفص بن عمر، وأشار إلى مخالفة سليمان بن حرب لـحفص بن عمر.
يقول رحمه الله تعالى في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105].
قد يتوهم الجاهل من ظاهر هذه الآية الكريمة عدم وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن نفس الآية فيها الإشارة إلى أن ذلك فيما إذا بلغ جهده فلم يقبل منه المأمور وذلك في قوله: إِذَا اهْتَدَيْتُمْ .
لأن من ترك الأمر بالمعروف لم يهتد، وممن قال بهذا حذيفة و سعيد بن المسيب ، كما نقله عنهم الألوسي في تفسيره و ابن جرير ، ونقله القرطبي عن سعيد بن المسيب و أبي عبيد القاسم بن سلام ونقل نحوه ابن جرير عن جماعة من الصحابة منهم ابن عمر و ابن مسعود، فمن العلماء من قال: إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ، أي: أمرتم فلم يسمع منكم، ومنهم من قال: يدخل الأمر بالمعروف في المراد بالاهتداء بالآية، وهو ظاهر جداً، ولا ينبغي العدول عنه لمنصف، ومما يدل على أن تارك الأمر بالمعروف غير مهتد أن الله تعالى أقسم أنه في خسر، في قوله تعالى: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1-3].
فالحق وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبعد أداء الواجب لا يضر الآمر ضلال من ضل، وقد دلت الآيات كقوله تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال:25]، والأحاديث على أن الناس إن لم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر عمهم الله بعذاب من عنده، فمن ذلك ما خرجه الشيخان في صحيحيهما عن أم المؤمنين أم الحكم زينب بنت جحش رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعاً مرعوباً يقول: (لا إله إلا الله! ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بإصبعيه الإبهام والتي تليها، فقلت: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث).
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها، وبعضهم أسلفها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً) أخرجه البخاري و الترمذي.
وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: يا أيها الناس! إنكم تقرءون هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105]، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن رأى الناس الظالم فلم يأخذوا على يده أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه) رواه أبو داود و الترمذي بأسانيد صحيحة.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا! اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [المائدة:78-81]. ثم قال: كلا والله! لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً، ولتقصرنه على الحق قصراً، أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض ثم ليلعنكم كما لعنهم
ولفظ الترمذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم وواكلوهم وشاربوهم، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ولعنهم عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان متكئاً فقال: لا والذي نفسي بيده حتى يأطروهم على الحق أطراً).
ومعنى تأطروهم، أي: تعطفوهم، ومعنى تقصرونه: تحبسونه، والأحاديث في الباب كثيرة جداً، وفيها الدلالة الواضحة على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر داخل في قوله: إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ، ويؤيده كثرة الآيات الدالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كقوله تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104].
وقوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ [آل عمران:110].
وقوله: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:78-79].
وقوله: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29].
وقوله: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ [الحجر:94].
وقوله: أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [الأعراف:165].
وقوله: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال:25].
والتحقيق في معناها: أن المراد بتلك الفتنة التي تعم الظالم وغيره هي أن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه عمهم الله بالعذاب صالحهم وطالحهم، وبه فسرها جماعة من أهل العلم، والأحاديث الصحيحة شاهدة لذلك كما قدمنا طرفاً منها.
مسائل تتعلق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
المسألة الأولى: اعلم أن كلاً من الآمر والمأمور يجب عليه اتباع الحق المأمور به، وقد دلت السنة الصحيحة على أن من يأمر بالمعروف ولا يفعله وينهى عن المنكر ويفعله أنه حمار من حمر جهنم يجر أمعاءه فيها، وقد دل القرآن العظيم على أن المأمور المعرض عن التذكرة حمار أيضاً، أما السنة المذكورة فقوله صلى الله عليه وسلم: (يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه، فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه، فيطيف به أهل النار، فيقولون: أي فلان ما أصابك؟! ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟! فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه).
أخرجه الشيخان في صحيحيهما من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما.
ومعنى (تندلق أقتابه) تتدلى أمعاؤه أعاذنا الله والمسلمين من كل سوء. وعن أنس رضي الله عنه قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رأيت ليلة أسري بي رجالاً تقرض شفاههم بمقاريض من نار، كلما قرضت رجعت، فقلت لجبريل: من هؤلاء، قال: هؤلاء خطباء من أمتك كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون)، أخرجه الإمام أحمد و ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و البزار و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو نعيم في الحلية و ابن حبان و ابن مردويه و البيهقي كما نقله عنهم الشوكاني وغيرهم.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه جاءه رجل فقال له: يا ابن عباس - الظاهر إني أريد - إني أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فقال ابن عباس: أوبلغت ذلك؟ فقال: أرجو، قال: فإن لم تخش أن تفتضح بثلاثة أحرف في كتاب الله فافعل، قال: وما هي؟ قال: قوله تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ الآية... [البقرة:44].
وقوله تعالى: كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:3].
وقوله تعالى عن العبد الصالح شعيب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ الآية... [هود:88]، أخرجه البيهقي في شعب الإيمان و ابن مردويه و ابن عساكر كما نقله عنهم أيضاً الشوكاني وغيره، واعلم أن التحقيق أن هذا الوعيد الشديد الذي ذكرنا من انزلاق الأمعاء في النار، وقرض الشفاه بمقاريض من نار، ليس على الأمر بالمعروف، وإنما هو على ارتكابه المنكر عالماً بذلك، ينصح الناس عنه، فالحق أن الأمر غير ساقط عن صالح ولا طالح، والوعيد على المعصية لا على الأمر بالمعروف؛ لأنه في حد ذاته ليس فيه إلا الخير، ولقد أجاد من قال:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله
عار عليك إذا فعلت عظيم.
وقال الآخر:
وغير تقي يأمر الناس بالتقى
طبيب يداوي الناس وهو مريض
وقال الآخر:
فإنك إذ ما تأت ما أنت آمر به
تلف من إياه تأمر آتياً
وأما الآية الدالة على أن المعرض عن التذكير كالحمار أيضاً، فهي قوله تعالى: فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ [المدثر:49-51].
والعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب، فيجب على المذكر والمذكر أن يعملا بمقتضى التذكرة، وأن يتحفظا من عدم المبالاة بها لئلا يكونا حمارين من حمر جهنم.
المسألة الثانية: يشترط في الآمر بالمعروف أن يكون له علم يعلم به أن ما يأمر به معروف، وأن ما ينهى عنه منكر، لأنه إن كان جاهلاً بذلك فقد يأمر بما ليس بمعروف، وينهى عما ليس بمنكر، ولاسيما في هذا الزمن الذي عم فيه الجهل، وصار فيه الحق منكراً، والمنكر معروفاً، والله تعالى يقول: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108] الآية.... فدل على أن الداعي إلى الله لا بد أن يكون على بصيرة، وهي الدليل الواضح الذي لا لبس في الحق معه، وينبغي أن تكون دعوته إلى الله بالحكمة، وحسن الأسلوب واللطافة، مع إيضاح الحق بقوله تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل:125] الآية.... فإن كانت دعوته إلى الله بقسوة وعنف وخرق فإنها تضر أكثر مما تنفع، فلا ينبغي أن يسند الأمر بالمعروف إسناداً مطلقاً إلا لمن جمع بين العلم والحكمة، والصبر على أذى الناس؛ لأن الأمر بالمعروف وظيفة الرسل وأتباعهم، وهو مستلزم للأذى من الناس؛ لأنهم مجبولون بالطبع على معاداة من يتعرض لهم في أهوائهم الفاسدة، وأغراضهم الباطلة، ولذا قال العبد الصالح لقمان الحكيم لولده فيما قص الله عنه: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ.. [لقمان:17].
ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـورقة بن نوفل: (أومخرجي هم؟)، يعني: قريشاً، أخبره ورقة أن هذا الدين الذي جاء به لم يأت به أحد إلا عودي.
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ما ترك الحق لـعمر صديقاً، واعلم أنه لا يحكم على الأمر بأنه منكر إلا إذا قام على ذلك دليل من كتاب الله تعالى، أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، أو إجماع المسلمين، وأما إن كان من مسائل الاجتهاد فيما لا نص فيه فلا يختم على أحد المجتهدين المختلفين بأنه مرتكب منكراً، فالمصيب منهم مأجور بإصابته، والمخطئ منهم معذور كما هو معروف في محله.
واعلم أن الدعوة إلى الله بطريقين: طريق لين، وطريق قسوة، أما طريق اللين فهي الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وإيضاح الأدلة في أحسن أسلوب وألطفه، فإن نجحت هذه الطريق فبها ونعمت، وهو المطلوب، وإن لم تنجح تعين طريق القسوة بالسيف حتى يعبد الله وحده، وتقام حدوده، وتمتثل أوامره، وتجتنب نواهيه، وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ.. [الحديد:25]، ففيه الإشارة إلى إعمال السيف بعد إقامة الحجة، فإن لم تنفع الكتب تعينت الكتائب والله تعالى قد يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
المسألة الثالثة: يشترط في جواز الأمر بالمعروف ألا يؤدي إلى مفسدة أعظم من ذلك المنكر؛ لإجماع المسلمين على ارتكاب أخف الضررين، قال في مراقي السعود:
وارتكب لأخف من ضرين وخيرن لدى استوا هذين.
ويشترط في وجوبه مظنة النفع به، فإن جزم بعدم الفائدة فيه لم يجب عليه، كما يدل له ظاهر قوله تعالى: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى [الأعلى:9]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (بل ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، فإذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوىً متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع عنك أمر العوام، فإن من ورائكم أياماً الصابر فيهن كالقابض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم)، وفي لفظ (قيل: يا رسول الله! أجر خمسين رجلاً منا أو منهم؟! قال: بل أجر خمسين منكم)، أخرجه الترمذي و الحاكم وصححاه و أبو داود و ابن ماجة و ابن جرير، و البغوي في معجمه و ابن أبي حاتم و الطبراني و أبو الشيخ ، و ابن مردويه و البيهقي في الشعب من حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه، وقال: الراوي هذا الحديث عنه أبو أمية الشعباني ، وقد سأله عن قوله تعالى: عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ، والله لقد سألت عنها خبيراً، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (بل ائتمروا ..) إلى آخر الحديث... وهذه الصفات المذكورة في الحديث من الشح المطاع، والهوى المتبع.. إلى آخره مظنة لعدم نفع الأمر بالمعروف، فدل الحديث على أنه إن انعدمت فائدته سقط وجوبه.
تنبيه: الأمر بالمعروف له ثلاث حكم:
الأولى: إقامة حجة الله على خلقه، كما قال تعالى: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165].
الثانية: خروج الآمر من عهدة التكليف بالأمر بالمعروف، كما قال تعالى في صالح القوم الذين اعتدى بعضهم في السبت: قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ [الأعراف:164] الآية... وقال تعالى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ [الذاريات:54]، فدل على أنه لو لم يخرج من العهدة لكان ملوماً.
الثالثة: رجاء النفع للمأمور، كما قال تعالى: مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الأعراف:164].
وقال تعالى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:55].
وقد أوضحنا هذا البحث في كتابنا: دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، في سورة الأعلى في الكلام على قوله تعالى: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى [الأعلى:9]، ويجب على الإنسان أن يأمر أهله بالمعروف كزوجته وأولاده ونحوهم، وينهاهم عن المنكر في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [التحريم:6] الآية.. وقوله صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته).
المسألة الرابعة: اعلم أن من أعظم أنواع الأمر بالمعروف كلمة حق عند سلطان جائر، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر)، أخرجه أبو داود و الترمذي وقال: حديث حسن.
وعن طارق بن شهاب رضي الله عنه أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وضع رجله في الغرز: (أي الجهاد أفضل؟ قال: كلمة حق عند سلطان جائر)، رواه النسائي بإسناد صحيح، كما قاله النووي رحمه الله.
واعلم أن الحديث الصحيح قد بين أن أحوال الرعية مع ارتكاب السلطان ما لا ينبغي ثلاث:
الأولى: أن يقدر على نصحه، وأمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر من غير أن يحصل منه ضرر أكبر من الأول، فأمره في هذه الحالة مجاهد سالم من الإثم ولو لم ينفع نصحه، ويجب أن يكون نصحه له بالموعظة الحسنة مع اللطف؛ لأن ذلك هو مظنة الفائدة.
الثانية: ألا يقدر على نصحه لبطشه بمن يأمره، وتأدية نصحه لمنكر أعظم، وفي هذه الحالة يكون الإنكار عليه بالقلوب وكراهة منكره والسخط عليه، وهذه الحالة هي أضعف الإيمان.
الثالثة: أن يكون راضياً بالمنكر الذي يعمله السلطان، متابعاً له عليه، فهذا شريكه في الإثم، والحديث المذكور هو ما قدمنا في سورة البقرة عن أم المؤمنين أم سلمة هند بنت أبي أمية رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون فمن كره فقد بريء، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع، قالوا: يا رسول الله! ألا نقاتلهم؟! قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة..) أخرجه مسلم في صحيحه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر